-->

الجمع بين القراءتين والتأسيس الإبيستيمولوجي لفلسفة الإصلاح

عصام أخيرى

  مركز الصدى للدراسات والإعلام: عصام أخيرى*
في القراة السابقة لكتاب "القطيعة بين المثقف والفقيه، جوانب القطعية بين البنيتين العقليتين المثقفالديني والفقيه" للأستاذ محمد يحيى، والتي نشر في قسم قراءة في كتب في موقع مركز الصدى للدراسات والإعلام  كنا قد ختمنا البحث بأننا في دراسة بحثية للجمع بين القراءتين، التي تشكل منطلق الفلسفة الإصلاحية، باعتبار الجمع بينهما، محددا منهجيا يرسم لنا معالم الفلسفة الإصلاحية، لإصلاح الفكر الإسلامي، بل يمكن القول أن نصلح الفكر الإنساني، الذي لا يزال في غياب منهجي يخول له أن يعيد قراءة القراءتين، بمنهج ابستيمولوجي، يعيد بناء منهجية العقل البشري-ولا نقول العقل الإسلامي، كون الرسالة الإسلامية رسالة عالمية غير قومية-  في كيفية التعامل مع القراءتين، وذلك ما نحاول في هذه المقالة أن نبينه، ولا يكفي المقام في التوسع المنهجي في هذه المقالة، وستكون لنا دراسة منهجية إبيستيمولوجية للجمع بين القراءتين، في دراسة مستقلة بحول الله.
ظهرت قضية الجمع بين القراءتين عند الحارث المحاسبي في كتابه ، العقل وفهم القرآن، من خلال كتابه يقول "الحجة حجتان، عيان ظاهر، أو خبر قاهر، والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، والعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علة الإستدلال"[1] ... "هناك مصدران، إذن، مصدران للمعرفة عند المحاسبي: العيان الـمُدرَك بالحواس، الخبر المنزل من الله، والعقل هو الذي يوازن ويُقايسُ ويتوصل من طريق التفكر والإعتبار"[2]، فالجمع بين القراءتين منبلج في مضمون كلام الحارث المحاسبي، <العيان المدرك> وهو الكون، و<الخبر المنزل من عند الله> وهو القران.

"أما الفخر الرازي فقد تميز عن كلا العالمين بأن حاول تفسير القرآن تفسيرا عمليا في تفسيره الكبير "مفاتح الغيب" ويقول في مقدمته -استغرب بعض الناس حينما قلت: أنني أستطيع أن أكتب من تفسير سورة الفاتحة وقر بعير، وإنني لازلت أقول هذا القول ولأبرهن على ذلك، فان بين يدي القارئ مجلدا كاملا في تفسير سورة الفاتحة فقط- ونحن لا ندعي أن الفخر الرازي أو ابن العربي أو المحاسبي استطاعوا تفسير القرآن بالكون او العكس، إنما قدموا مؤشرات"[3] لتفسير القرآن الكريم بالكون، وربطه ببعض ما هو مطروح في الكون الذي وصل إليه العلم الحديث، والقرآن المجيد يثبته، ويقوي حقيقته، ويؤكد أن القرآن ليس كالتوراة والإنجيل، التي حرفت عن مواضعها، ونسي بنو اسرائيل عظيم ما ذكروا به في الكتب الأصلية.

إن الجمع بين القراءتين، قراءة في القرآن، وقراءة في الكون، جمع يكمل الاستيعاب والترابط الذي يمكن الإنسان من تحقيق الهدف الأسمى الذي خلق له، الإستخلاف والعمران بتعبير الدكتور العلواني "فكلاهما ـ القرآن والوجود المشيء- يكمل الأخر في الكشف عن دلالات الوجود وقوانينه"[4] ويضيف حاج حمد ب "أن الجمع بين القراءتين يعتمد على الربط بين القرآن بوصفه محتوى الوعي المعادل للوجود الكوني وحركته وما يتمظهر به هذا الوجود من تشيؤ وتكوين"[5]

القراءة الأولى:
تمثل قول الله تعالى، الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كهف القراءة:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}[6] "فهنا طلبت من الرسول صلى الله عليه قراءتان: قراءة تأتي عبر التعلق بقدرة الله المطلقة في الحركة الكونية ودون كيفية محددة تتجلى في الإتجاه بالعقلة إلى مرحلة الإنسان...وهي قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفتها وخلقها للظواهر ذات المعنى وتحقيق هدف حق للخلق، قراءة خالصة لقدرة الله في كتاب كوني مفتوح. هنا تأتي القراءة باسمة المقدس أي قراءة بالله بوصفه خالق والخلق صفة يتفرد بها الله"[7] الداعي إلى القراءتين، فقوله تعالى "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، قراءة "باسم الله أو على اسمه-تعالى ـ ومعه، لهذا الوحي"[8]، فهي بذلك قراءة تكون باسم الله، الذي يتجلى القرآن الكريم في اسمه تعالى، فالقرآن كتاب الله تعالى المتمثل في ذاته، ففي هذا القرآن، ما يجب تعلمه من "الحكمة والهداية والرشد"[9]،

إذ تتجلي معالمها في الكتاب المسطورـ القرآن، وذلك من خلال  تدبر آيات الله في كتابه، الكريم، من خلال النظر الفكري الذي يكون حاضرا في ترتيل وقراءة القرآن الكريم، وهذا التدبر يقود الإنسان إلى اكتشاف معالم المنهج القرآني، والذي بدوره يسمح له بالبصيرة الذاتية، القلبية والنفسية، المتمكنة من هداية الانسان إلى فهم هذا القرآن الكريم، فقد أشار الله تعالى الى التدبر في غير موضع من القرآن الكريم، وجله يدعوا الى التدبر والتأمل فيه، من ذلك ما ذكر الله تعالى في محكم التنزيل، قال الله تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[10]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[11] ، وقال جل جلاله{ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [12].

القراءة الثانية:
    تتجلى معالم القراءة الثانية في الكون الشاسع الذي خلق من أجل الربط بينه وبين القراءة السابقة، وتكامل المعرفة الإنسانية، وهي في تأمل الخلق الإلهي بدقة عقلية وعناية قلبية، من سماوات وكواكب، ومجرات، ومخلوقات آدمية وغير آدمية، بعد القراءة الأولى التي بينها حاج حمد يقول "وقراءة ثانية ليست باسمه ولكن (بمعيته) لذلك لم تأت الآية في الشطر الثاني على نحو المقدمة فلم يقل(واقرأ باسم ربك الأكرم)  ولكن (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ-3-) فجعل العطف على الربوبية وأعطى الأمر الثاني(اقرأ) اتجاها مستقلا والأمر واضح بالنظر إلى حركة الواو في القراءة.
  فدليل المعية هنا (وربك) ثم يتخذ الله في القراءة الثانية صفة دالة على نوعية القراءة المطلوبة، وهي قراءة متعلقة بصفة كون الله كريما فما خلق... فالقراءة الثانية هي قراءة بالتفهم العلمي الحضاري (القلم) لتجليات القدرة في نشاط الظواهر ووجودها وحركتها تفاعلاتها"[13] 
فهذه القراءة ذاتها التي صاغ القرآن المجيد بحسبها "دليل الخلق ودليل الإبداع والتكليف بالنظر العقلي في الوجود، والنظر في آثار  الأمم السابقة ومعرفة ما حدث لها"[14] "وهذه قراءة بالقلم، والقلم إشارة إلى قوانين العلوم الوظيفية التي يتبناها العقل بموضوعية حيث يكتشف قوانين الصيرورة والتحولات ومبادئ التكوين والمعرفة، أي قوانين التشيؤ ونظرياته"[15] "ولذلك جاءت القراءة هنا عبر علم متعلق بالقلم والقلم بالنسبة للإنسان (وسيط خارجي) لمعرفة موضوعية وليس ذاتية"[16]  "هي -علمية طبيعية- في خصائص التركيب والحركة والصيرورة والإتجاه أي في الجدلية والنسبية والتطور"[17] "وهذه القراءة يتم ربطها مع ما تقدم تفصيله في القراءة السابقة "ليكشف قوانين الصيرورة والتحولات ومبادئ التكوين والمعرفة، أي قوانين التشيء"[18] "وهي قراءة علمية صارمة في -تركيب-الكون، صارمة من صرامه أنجلز في العلوم الطبيعية، وبأكثر من صرامة  دوركايم في العلوم الاجتماعية"[19]، وفي عالم المشيئة تأتي القراءة الطبيعية بالقلم وكثير ما يرى فيه الإنسان مفهوم الألوهية"[20]، وهذا بدوره ما قد حدث لموسى عليه السلام، حين كان له ميقات مع الله، فكان من موسى أن أراد رؤية الله، فكان من وراء قصده الإرتقاء بجل حواسه النفسية والعقلية "لتنظر {أرني أنظر إليك} هنا أسقط الله -حجاب المشيئة-فتجلى للجبل بقوة -الإرادة-"[21].
منهجية القرآن المعرفية:
و هي منهجية الوجود القرآني، النهجية المطلقة، في مَنهَجَةِ الفكر الكوني، والعلوم الكونية،  والتي لم يتعامل معها العقل الإسلامي بمنهج نسقي مضبوط المنهج الإبيستيمولوجي المعرفة، الشيء الذي نتج عنه عدم التعامل العقلي في إطار الوجود المنهجي مع القرآن المجيد بمنهجية الجمع بين القراءتين، بل تعامل معه بالتقديس مع قاعدة لا اجتهاد مع النص، والتي أسس بموجبها الفكر الجامد، قاعدة ايدولوجية، تبرر وسيلة السلطة، والإستبداد.

  فمن منهجية القرآن المعرفية[22] يمكن من خلالها، أن  يتحقق الجمع بين القراءتين وهي "ضرورة معرفية وحضارية، لا على المستوى الإسلامي وحده، بل على المستوى العالمي ـ كله ـ للخروج من المأزق المعرفي المعاصر، والأزمة الفكرية العالمية المعاصرة"[23]، إن الأزمة التي نعاني منها ولا زلنا نعاني منها شركاء في الأزمة العالمية الفكرية، فأزمة العالم أزمة أخلاقية روحية ، ونحن أزمة فكرية علمية، روحية "فنحن في هذه الأزمة العالمية من ناحية؛ لأن علاقتنا بها لم تعد علاقة برانية وهامشيه -كما قد يتوهم البعض-"[24]، بصفتنا منتمين إلى العالم الثالث، فقد استطاعت الحضارة الغربية أن تفرض علينا، بل على العالم أجمع ثقافتها وأفكارها ومبادئها وحتى مصطلحاتها، التي أصبح الفكر الإسلامي يخوض ضدها معارك.[25]
تعطيل القراءة الأولى ومفهوم الطغيان[26]:

بالنظر إلى ما آلت إليه الأوضاع التي نشاهدها في الفكر المعاصر من فجور ايديولوجي وضعي في المجال السياسي والإقتصادي والإجتماعي، راجع لا محالة إلى إهمال القراءة الأولى المتمثلة في القرآن الكريم، حيث؛ اكتفى الغرب بالقراءة الكونية التي نتج عنها فلسفات مادية وضعية، قاصية بذلك أي علاقة متكاملة مع الدين- والمقصود منه الاسلام، لا اللاهوت المسيحي- فكان عاقبة هذا التفريق تخلف الفكر الغربي أخلاقيا وروحيا، فتشكلت في كونيته الفكرية الأسئلة اللانهائية أو المعقدة، من نحن؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين سنصير؟ كل هذه التساؤلات تسهلها المنهجية المعرفية، في تحديد الإطار الكمي، والكوني للوجود الإنساني، فإهمال الوحي وقراءة الكون، تؤدي بالإنسان إلى أزمة عقلية ينتُج عنها غمرات مادية وفلسفات إلحادية "فقد أدى تعطيل القراءة الأولى والإستغراق الكلي في القراءة الثانية (علم القلم الوضعي) إلى نوع من روحية الاتحاد بالطبيعة ... وهكذا كما غيب (صالح بن عمرو) الإنسانية عن الحركة جاءت الفلسفة الوضعية لتقابله بتطرفها مفهومها الجزئي فغيبت الله عن وعيها بالحركة"[27]  والفلسفة الوضعية المادية "عوراء قاصرة في مصادرها تحول أن توحد بين الانسان والطبيعة بإطلاق؛ وتعتبر الخلق والغيب كله مجرد ورائيات أو ميتافيزيقيا يمكن تجاهلها وتجاوزها"[28] .

إن الفلسفة الوضعية لا تزال في نسقها المعرفي الوضعي، التي تجعل  من الانسان يكفر وينكر الذات الإلهية وصفاته وعدم الإقرار لله بالألوهية والربوبية، كما ذهب  إلى ذلك فلاسفة اليونان، والإغريق[29] إذ ينظرون إلى أن الذات الإلهية أنها قد ذابت في الطبيعة، من هنا كانت بداية الطغيان الإنساني في الشرك، والجور، فسعى إلى تقديس الطبيعة وعبادتها-فكريا أو لاهوتيا- على أكمل وجه، ونظروا إلى الوجود على أنه مجرد صدفة، ليس هنا بخالق، يخلق ما يشاء، فهذا الفكر الغربي نتج عما بدا منهم من إهمال الوحي، الإلهي، والحقيقة التي تتبنها الفلسفة الوضعية، والتي لا تعترف بها، خوفا على ضياع الوجود المادية، أن القرآن ا مجيد، حقيقة فلسفية، مطلقة الوجود، معادلة للكون المنطقي وأن كل المخلوقات خلقت بقدر وكل ميسر لما خلق له، وأن الإنسان ميسر لا مُخير، في ظل تحقيق أمانة العمران والاستخلاف لكن الفكر الغربي لا ينظر الى وجود الله، "بل يرى أن الإنسان هو الفاعل المبدع، المتعدد القدرات، المسيطر على الطبيعة، المفجر للكون ومن ما فيها"[30]

تعطيل القراءة الثانية ومفهوم العجز[31]:

أعتقد أن كل ما له صلة وصل بأزمات الفكر الإسلامي، والفكر الغربي، سواء في كلا العالمين، المتقدم؛ المتمثل في الدول المحتكرة لثروات العالم، والدول النامية[32]، إهمال الوجود الحقيق، والتفريق أو إهمال قراءة دون أخرى، وهذا لا يخفى حقيقة، فهو منبلج في العالم المعاصر، فالغرب أهمل القراءة الأولى، فكان  ما نتج منه لذاته بالتخلف الروحي والعقدي، وكان من نتائج إهمال القراءة التي تصدي لها الغرب، عند المسلمين أن تخلفوا فكريا، وعلى صعيد المجالات التي تقوم الدول المنسوبة إسلاميا بالخوض فيها، والأمر الخطير الذي زاد الطين بلة، أن أغلق العقل التقليدي باب الإجتهاد، فقعد وانحط تقهقرا العقل المسلم عن الإجتهاد والتجديد في ثقافته الإسلامية والفكرية، نقول أن باب الإجتهاد لم يُغلق، فلا سلطة مطلقة لبشر بعد أن فتحه النبي صلى الله عليه، أن يُغلقه، بحجة الدفاع عن الحرمات والمقدسات، فقد احتم إلى العزف التقليدي، والنزعة الذاتية في الاخذ والعطاء الفكري، فالمتشدد لا ينفك يشد الدين بكل قوة، ظنا منه أن التكلف لبشري والمكلفين في قدرة مستطاع أن يلزموا بالتشدد، فأُخد الدين على الصلابة والتقشف.

"نجد أن تعطيل القراءة الثانية يؤدي إلى الانتقاص من الفعل البشري، وبالتالي القيمة الوجودية للإنسان في الحياة"[33]  إهمال قراءة الكون، يفقد الإنسان، أهم وجود وُجِد له في الوجود الكوني، الإستخلافي والعمراني حيث "يشل طاقات الإنسانية والعمرانية والحضارية، ويعطله عن أداء مهام الخلافة الأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير"[34] وجل ذلك لا يتناسب مع مقاصد القرآن الحاكمية التي دعى إليها، بل ينقضه كل النقض، بحيث أن كل من اقتصر على الوحي دون الإهتداء بالربط بينه وبين الكون، ف "قد يستغرق في المحرمات متعذرا عن ذلك بأنه ميسر، وتلك صفة من صفات أهل الشرك"[35]. والناظر فيما قدمه المسلمون من مقالات عجيب أمرها، إذ تقوم بالخلط بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي، والإرادة الإنسانية، وقضايا الاختيار والعلل والاسباب وسواها"[36] فلا بد للإنسان أن يجمع بين القراءتين لكيلا يقع فيما وقع فيه كل فريق من التخبط في العشواء، والتقهقر الفردي والجماعي في الروح وسمو الأخلاق والحياة.

"فالقراءة قراءتان، وكل قراءة منهما تعين في القراءة الأخرى فهما قراءتان متكاملتان ولا بد للإنسان القارئ أن يجمع بين القراءتين ليتمكن من تحصيل الهداية والرشد: وتتكامل القراءتان حين تتم قراءة الوحي لفهم العالم والتعامل معه، وتتم قراءة العالم لفهم الوحي والتعامل معه"[37]، ما يشير إلى تحقيق وجود التكامل المعرفي عند الدكتور ملكاوي يقوم على أساس الجمع بين القراءتين، وإدراك حقيقة كل قراءة، وأن كل قراءة في أمس الحاجة المنهجية إلى القراءة الأخرى.

في إطار التناقل المعرفي في الفكر الفلسفي الإسلامي، بين المفكرين، نجد أن هناك دعوة للجمع بين القراءات، الوحي والكون، والإنسان، فهذا ما ذهب إليه الدكتور عبد الرحمن العضرواي "... لكنه باستمداده- أي العقل الإصلاحي- من الجمع بين قراءات الوحي والكون الإنسان، يتميز بخاصية التكامل المعرفي، الذي ينسجه عالم الوحي المسطور وعالم الكون المحظور، وعالم الواقع المعمور والمشهود"[38] وفي موضع أخر يقول "وبهذا التكامل المعرفي بين قراءة الإنسان والكون، الوحي يتخذ مسار الفعل الإصلاحي العقلانية اللازمة لتجاوز مدخلات الإفساد للحضارات وصناعة أزمتها التي لا تنتهي"[39] ، وفي ختام دراسته يؤكد على أن الجمع جمع بين القراءات، "فالعقل الإصلاحي عقل نقدي تعليلي مقاصدي ينطلق من مقتضيات الوحي الكلية التي تؤسس الحرية الإنسانية في تشكيل  التاريخ ومن مقتضيات التاريخ التي تفرض صناعة منهجيات عقلانية وإنتاج نظريات علمية واكتشاف قوانين كونية تبر التكامل والتفاعل بين الإنسان والوحي والكون"[40]، 

كيفية الجمع بين القراءتين:
يظل سؤال الكيف سؤلا، فلسفيا، يحقق الوجود الفكري للجواب الذي يظل في الحقل الفلسفي سؤلا لماهية الدور الوجودي للسؤال، فمن خلاله يمكن لنا أن نكتشف مجموعة المناهج التي من خلال كيفيتها، يمكن أن نبني، ونؤسس حضارة ذات بعد معرفي تتسم الوجود الفعلي للدور الإستخلافي للإنسان، فلا جواب على السؤال الكيفي إلا من خلال ذاته، باعتبار السؤال أساس المعرفة، فلكل سؤال جواب، والجواب من الناحية الفلسفية سؤال من أجل المعرفة.

رغم ذكر القراءتين في القرآن المجيد، لم نجد لها أثرا في كتب التراث، خاصة التي تناولت علوم القرآن، نجدها عند قله قليلة، ممن تناولها دون إطناب، وإنما مجرد  إشارات فقط، ليس إلا، فقد كتب في علوم القرآن ما لا يعد ولا يحصى من المؤلفات العلمية، ولكن الذي كان يجب أن يحظى بما حظي به غيره لم ينله، إذ ينظر الدكتور العلواني إلى أن سبب وعدم الإلتفات إلى هذه القضية، دخول الإسرائيليات إلى الساحة والتراث الثقافي الإسلامي، وللجمع بين القراءتين يجب نفي تصورين كما يرى ذلك  المفكر السوادني الأستاذ محمد أبو القاسم حاج  حمد، وهما "التصوران الإحيائي وثانيهما التصور المادي"[41] باعتبار الأول  تأليه الكون، وما يترتب منه من ظواهر طبيعية، والتصور المادي للكون، يبدأ كذلك بالنظر إلى هذه الظواهر الطبيعية في إستقلاليتها"[42]، لينظر إليها نظرة الإله المستقل عن الوجود، وينظر حاج حمد إلى ثلاث مستويات يمكن بها الجمع بين القراءتين:
ü    التأليف بين القراءتين بطريقة توقيفية ثنائية؛ الإنفتاح الذاتي ولنفسي والعقلي على عالم المشيئة.
ü    التوحيد بين القراءتين بطريقة منهجية عضوية؛ بمعنى الإنفتاح الذاتي والنفسي والعقلي على عالم الإرادة المقدسة.
ü    الدمج بين القراءتين برؤية أحادية؛ تنزل من الغيب إلى الواقع وهو الإنفتاح الذاتي والنفسي والعقلي على عالم الأمر المنزه"[43] .
خاتمة:
تشكل قضية الجمع بين القراءتين منطلقا معرفيا، يمكن من خلاله، باعتباره محددا منهجيا، في إصلاح الفكر الإسلامي، وتحقيق المنطلقات المعرفية والفلسفية للإجتهاد والتجديد، وكذلك، تحقيق المقاصد العليا الحاكمة التوحيد والتزكية والعمران، وللجمع بينهما، لا بد من  تجاوز القراءة -المادية- الوضعية للكون، وكذلك تجاوز القراءة العضينية، التي شكلت حول القرآن المجيد، إشكالات ونظريات، لا تزال أصل العرقلة الإصلاحية للفكر الإسلامي، من ذلك مسألة النسخ ومسألة الردة في الإسلام، الشيء الذي يلزمنا البحث والتقصي في هذه المسائل، في مقالات منفردة، بحول الله.
*باحث في الفكر الإسلامي


[1]- القرآن وفهم العقل، للحارث المحاسبي، ص 232، نقلا عن رضوان السيد، بين التنزيل والتأويل، ضمن، العلوم الإسلامية أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟ الرابطة المحمدية للعلماء، الطبعة الأولى بدون تاريخ ص 14.
[2]- القرآن وفهم العقل، للحارث المحاسبي، ص 235، نقلا عن رضوان السيد، بين التنزيل والتأويل، ص 14.
[3]- العلواني، طه جابر، مقدمة في اسلامية المعرفة، دار الهادي ط 2، 2009-1430. ص59.
[4]- حاج حمد، محمد أبو القاسم، منهجية القرآن المعرفية، دار الهادي، ط 2، 2008- 1429 ص.177.
[5]- نفسه، ص 177.
[6]- سورة العلق، الآىات.1-5
[7]- حاج حمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، دار ابن حزم، ط 2، 1416-1996 م ج 1، ص 456-457.
[8]-طه جابر العلواني الجمع بين القراءتين، دار السلام للنشر والتوزيع والترجمة، ط 1، 2014-1435، ص16.17.
[9]- نفسه، ص. 17
[10]- سورة ص، الآية 29.
[11]- سورة محمد، الآية 24.
[12]- سورة القمر، الآية 22.
[13]- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج 1، م س، ص 357.
[14]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 18.
[15]- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م. س ص177.
[16]- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج 1، م س، ص 357.
[17]- محمد أبو القاسم حاج حمد، الأزمة الفكرية في الواقع العربي الراهن، م. س ص 315.
[18]- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م. س ص177.
[19]- محمد أبو القاسم حاج حمد، الأزمة الفكرية في الواقع العربي الراهن، م. س ص 314.
[20]- نفسه، ص 316.
[21]- نفسه، ص 316.
[22]- راجع دراسة الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، المعنونة ب<منهجية القرآن المعرفية> م س.
[23]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 28.
[24]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 29.
[25]- للاطلاع بشكل مكثف على هذه المعارك، انظر مقدمة كتاب الدكتور سعيد شبار "الثقافة والعولمة"، وكتاب منير شفيق "الإسلام ومعركة الحضارة".
[26]- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج 1، م س، ص 360.
[27]- نفسه، ص 460
[28]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 22.
[29]- لا تزال هناك في مشارق الأرض ومغاربها دعوة القول بصدفة الخلق وأن الطبيعة التي أوجدت نفسها، وهي الفلسفة الوضعية التي يتبناها الفكر الإلحادي.
 -[30]طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 23.
[31]- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج 1، ص 359.
[32]- لقب أطلقه الغرب على الدول المستعمرة، قصد بيعها الوهم بالتقدم، والنمو.
[33]- محمد أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ج 1، ص 359-360.
[34]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 24.
[35]-نفسه، ص 26.
[36]- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، م س، ص 26.
[37]- ملكاوي، حسن فتحي، منهجية التكامل المعرفي، مقدمات في المنهجية الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بالمغرب، طبعة خاصة بالمغرب، 2012، ص 213.
[38]- العضراوي، عبد الرحمن، العقل الإصلاحي وإشكالية تغير الواقع الإسلامي، ضمن سؤال الأسس المرجعية والمنهجية لتجديد الفكر الإسلامي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تنسيق مولاي أحمد صابر، إشراف محمد العاني،20-21، بني ملال، ص 162.
[39]- نفسه، ص 173.
[40]- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م، س، ص 178.
[41]- نفسه، ص 187.
[42]- نفسه، ص187.
[43]- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، م، س، ص 179 بتصرف.

أحدث أقدم