-->

قراءة في كتاب: القطيعة بين المثقف والفقيه، ليحيى محمد


مركز الصدى للدراسات والإعلام: عصام أخيرى*
يشكل العقل في الفكر الإنساني، أداة التدبر والتعقل في تكوين الفكر وتحقيق الوجود الحضاري، في معترك التفاعل الوجودي للحياة الفكرية، مما يجعل العقل مناط التكليف بتعبير الأصوليين، بذلك يكون العقل مصدرا من مصادر المعرفة البشرية، مشكلا مع الوحي والواقع-الكون، معرفة تيسر للعقل، تأسيس معرفة تقوم على أسس مرجعية ومنهجية، كفيلة بأن تبني وتحقق الشهود الحضاري، للإنسان،  إن المثقف، حسب ما يقول محمد يحيى "إذ يُقصد به ذلك تارة من له العمل الفكري في قبال الأعمال اليدوية، وهو بذلك يشمل أهل الإختصاص وغيرهم من ذوي الاهتمام بالقضايا العلمية والمعرفية"[1]، وفي  ذات السياق يضيف تعريفا آخر "كما يُقصد به تارة ثانية ذلك الذي يحمل معارف الاهتمام بالقضايا المجتمع العامة"[2] مما يشكل في هذا التعريف أن لكل تخصص معرفي فئة من المثقفين الذين يحملون الهم القضائي للقضايا المعرفية، إذ يجمل محمد يحيى، عناصر المثقف في مجموعة من العناصر:
-ذو قدر واسع م الإطلاع والمعارف الفكرية المتنوعة...
-إطلاع المثقف يؤهله لأن يمتلك القدرة على الإدراك النظري فهما وتأسيسا...
-معارف المثقف مستمد في الأساس من النظر والإطلاع على شؤن الواقع....
-ينصب اهتمام المثقف على قضايا المجتمع باعتباره كائنا معرفيا يمكنه أن يؤثر في حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من أفكار وما يقدمه من معارف..."[3].
فالمثقفين عند محمد يحيى على درجات متفاوتة "يمكن إجمالها بنوعين متميزين، أحدهما ذلك الذي تكون له القدرة التامة على التنظير وابتكار الأفكار وإنشاء المذاهب والمناهج، يمكن أن نطلق عليه «المفكر»، أما النوع الأخر فهو لا يمتلك مثل هذه الخصوصية إنما له القدرة على التميز وتبني ما يطرقه الأول من أفكار...."[4]، إذن فالمثقفون حسب محمد يحيى نوعين، "المفكرين أو المنظرين...المثقفين العاديين"[5]. إن الإنتاج المعرفي الذي يشكل واقع الفكر المعاصر، يُنتج من خلال مجموعة من البُنى العقلية لمثقفي الوسط السوسيولوجي، والذي يتشكل حسب محمد يحيى من خلال "ثلاث بنى عقلية منتجة"[6] "وبذلك تتشكل لدينا ثلاث دوائر بنوية للمعرفة، دائرة الفقيه ومن على شاكلته من النصوصيين، ودائرة المثقف العلماني، وأخيرا دائرة المثقف الديني"[7].
وتتشكل العلاقة السوسيولوجية بين هذه الفئات مع الواقع المجتمعي من خلال:
أن الفقيه قديما كان "يشكل العنصر المختص الوحيد الذي له تأثير بارز في الساحة الاجتماعية...لقد كان الفقيه يمارس دور الولاية العلمية حيال غيره.... حيث السلطان يحتل المرتبة الأولى من التأثير في العنصرين المتبقيين-الفقيه والأمة أو الواقع السوسيولوجي- ويتبعه في ذلك الفقيه. ولم يكن للأمة من دور سوى المحكومية بالتقليد والطاعة. فالتقليد هو الركن الذي رسخه الفقيه في أعماق عقل الأمة[8]، لهذا فقد انتقد ابن المقفع الفقهاء في صياغة اجتهاداتهم "لكونها صنعة لا تعير اهتماما بحقيقة الواقع وكليات المبادئ الفطرية العامة وعلى رأسها العدل"[9]، وهذا واضح من خلال حصرهم لمفهوم الإجتهاد في الساحة الفقهية، دون غيرها، مغيبا بذلك-العقل الفقهي-الواقع كمكون وكمصدر للإجتهاد.
شكلت مصر ثم بلاد الشام أول بلدان تأثرت في المنافسة بين الفقيه والمثقف "لقد كانت مصر ومن ثم بلاد الشام  هي أول المتأثرين بالوضع  الجديد من المنافسة بين الفقيه والمثقف الجديد"[10] ، وذلك لأن كل عنصر كان يشكل  بنية  تختلف كل بنية حسب المنتقى الوجودي للتشكل الفكري، لكل من المثقف الجديد والفقيه، "وكان الفقيه يمثل-آنذاك- المؤسسات الدينية وعلى رأسها جامعة الأزهر ، في حين ارتبط  المثقف الجديد بالمؤسسات العلمية والثقافية الحديثة"[11]، فمن أمثال المثقف الجديد-المشكلين للبنية العلمانية- نجد كل "احمد فارس الشدياق، شبلي الشميل، جميل صدقي الزهاوي... أما على صعيد المثقف الديني فنجد رفاعة الطهطاوي  وعبد الرحمان الكواكبي ومحمد إقبال"[12]. وقد شكل هؤلاء رواد النهضة والإصلاح في بداية الإستيقاظ الفكري، والغفلة المعرفية، الذي ندرسه في منطلقه الفكري في دراسة مستقلة بحول الله.
إن هذا التطور الذي شكل نواة التغيير في العالم العربي، من خلال الصراع الفكري في البلاد المستعمرة بتعبير مالك بن نبي،، القائم بين الفقيه، والمثقف الديني، كان من نتائج الوجود الإستعماري في الساحة الإسلامية، "فقد أحدث الإستعمار في نفوس المسلمين الوعي الذاتي...وهو أن المسلمين قد أدركوا ذاتهم التي أُهملت لقرون من الإنحطاط عبر النظر إلى <<الأخر>>"[13]، من خلال هذا الوعي فقد تشكل في العقل العربي ، طرح الأسئلة التي كانت، سببا في ترك التقليد، الذي لبث في العقل الإسلامي، عدد سنين، منذ القرن التاسع ميلادي، إلى القرن السابع عشر ميلادي، ما شكل صراعا مع مجموعة من المقلدين، الذي تصدوا إلى الدعوة الإصلاحية، وذلك بحجة حماية المقدس، ولكن المنطلق الإيديولوجي الذي كان سببا في التصدي للحركات الإصلاحية؛ الحفاظ على المناصب السياسية وكذلك القيادية، ف "قد واجه الأزهر منذ بداية ما يسمى بالنهضة الحديثة صراعا حول تجديد الدراسات الإسلامية، وعلى رأسها الدراسات الفقهية، إذ شهد هذا الجامع مخاضا من النزاع الداخلي حول مسألتي التحديث والتقليد"[14].
كان من بين مجموع عوائق التقدم التي شكلت البعد المجالي للوظيفة الإصلاحية عند خير الدين التونسي "حصر عوائق التقدم في فئتين هما رجال الدين، ورجال السياسة"[15]، فلولا طمع وتهافت رجال الدين إلى المناصب العليا في الدولة، ما جار السلطان. شكل الأستاذ الإمام وتلميذه السلفي "الوسط الثقافي الديني. فمثلا أن كلا من محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، يمثلان الإتجاه الوسطي للمثقف الديني، لكن بينهما تباعدا واضحا، وهو أن رشيد رضا أقرب إلى عقلية الفقيه مقارنة بأستاذه الشيخ"[16]، فالحركة الإصلاحية بمجملها عند محمد يحيى، أو "النهضة الحديثة مضطربة فلا هي تقليدية صرفة ولا هي تجديدية، إذ تارة تتخذ صوره التجديد، وأخرى صورة التقليد وبتبريرات مختلفة"[17].
يتشكل المثقف العلماني عند محمد يحيى على خمس أشكال:
-النموذج العلموي، وهو الذي يجد في العلم ضالته الوحيدة في البحث...
-النموذج الميتافزيائي، الذي يفترض وجود نسق قبلي كحقيقة مطلقة تتجاوز حدود التاريخ والزمان والمكان...
-النموذج الذرائعي، الذي لا يهمه إن كان مصدر الحقيقة قلبا أو بعديا، إنما يهمه توظيف الحقائق لقضايا نفعية تخدم المجتمع...
-النموذج العقلاني وهو الذي يؤمن بالعقل إيمان مطلا من حيث قدرته على الكشف عند الحقائق وتحقيق ما تصبو إليه نهضة إنسانية...
-النموذج اللاعقلي، وهو على خلاف سابقه لا يمنح المنطق العقلي دورا فاعلا في كشف الحقائق وحل المشاكل العامة...[18].
أما المثقف الديني فإنه من خلال ما تبين لمحمد يحيى "أن جميع هذه النزعات تتجسد في المثقف الديني وإن بنسب وهيئات مختلفة"[19]، ثم يبرز بعد ذلك المفكر بين المثقف الديني وأشكال المثقف العلماني حيث يرى الأخير " بأن هناك تضادا بين الدين والعلم... يرى المثقف الديني أن ما يضعه الأول من تضاد بين العلم والدين ... إنما جاء نتيجة خطأ في التقدير"[20]، والفرق بينه وبين النموذج الميتافزيائي، أن "كلهما يستند إلى منظومة التعالي  الغيبي يجعله من هذه الناحية لا يختلف عن الثاني"[21]، أما ما يتعلق "بالمثقف الذرائعي ففارقه عن المثقف الديني هو أنه حيث نفعيته لا يمتلك تكوينا معرفيا محددا... أما المثقف الديني فرغم أنه ليس خاليا من النفعية إلا أنه يعدها مؤطرة بإطار منظومته المعرفية والقيمية"[22]، ومجمل الفرق "أن المثقف الديني لا يربط نظرية الإستخلاف بشكل النظام السياسي  بقدر ما يربطها بوجود المجتمع الصالح"[23].
تجديد الدين كما سبق وأشرنا إليه في بحث غير منشور، أن التجديد؛ تجديد التدين، تجديد منهج وتقويم، لا تجديد الدين ذاته، وأدوات الفكر التي يتم من خلالها ربط علاقة فكرية ومنهجية مع القرآن المجيد، فالتجديد كما سبق، ليس في الدين ذاته، بل فيما تدين الناس، في عصر من العصور، لهذا فالمفكر الديني عند الأستاذ محمد يحيى يمتاز عن الفقيه بمجموعة من الإعتبارات:
1-       "على الأقل لا يعمل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء، بل إنه يعده من أسباب انحطاط الأمة وتخلفها... من غير هوادة كالذي ذهب إليه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، ومن ذلك تنديد هذا الأخير بمقلدة الفقهاء حيث ساورا بطريق يخالفون فيه نصوص الآيات أو ظواهرها"[24]،ونحن في موقف محايد لأستاذ يحيي، في أن التقليد سبب انحطاطا وتخلفا للأمة، بعد أن كان الإجتهاد سببا في تتبعها للشهود الكوني، وتحقيق مبادئ الإستخلاف القرآني.
2-       "إنكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية، ومن ذلك أن الكواكبي إعتبر أن توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقا أوقع الأمة في ارتباك عظيم"[25] إن التدقيق الجزئي الذي كان من قبل العقل الفقهي؛ سبب في مسيرة الفكر الإسلامي، تعثرات شكلت تقوقعا فيما بعد، باعتبار الجزئيات تشكل الوجود الفكري للأفكار، فالمنهج القرآني في عرضه للمبادئ المعرفية والمنهجية، لا يفصل بالقول المطنب، بل يشير إشارات في موضع، تكون تارة مقيدة، وتارة مفصلة، ليس إلى درجة التعقيد الذي أنتجه العقل الفقهي، وهذا ما يشكل عائقا أمام الإصلاح التربوي؛ الغوص في الجزئيات، الذي لا يُنتج سوى التخلف، الدال على عدم قدرة الفقهاء في البحث والاجتهاد فيما له صلة مباشرة حقيقة مع المعالم المنهجية للقرآن المجيد، كالجمع بين القراءتين، والوحدة البنائية للقرآن المجيد.
3-       "المفكر الديني لا يعول على الفقه بالتقليد ولا يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية[26]، وذلك أن الفكر الديني يتصل اتصالا مباشرا مع النص دون واسطة فقهية لهذا كانت دعوة المفكرين الإصلاحين الإتصال المباشر مع القرآن المجيد دون واسطة فقهية-وهي دعوة محمد عبده- كي لا يتحجر العقل ويتقوقع في التعصب المذهبي، أو النقل الإسرائيلي، وكذلك التحيزات للفرقة الناجية، والبدع السلطانية وكذلك دعوا إلى عدم التعقيد في التلقين، والتلقين بكل سلاسة تمكن الطالب من الإستيعاب الكمي، والكلي للحقيقة.
إن التقليد الذي بسببه لا زلنا في صراع بين الإنسلاخ منه ولبسه من جديد، قد قوقع المصادر في القرآن والسنة والإجماع، والقياس إلى غير، ذلك، ولكن المصدر الذي شكل الحجر الأساس بعد العقل، والذي غاب نسبيا وأهميته عند الفقهاء، فلو كان الواقع مصدرا بعد العقل، لكنا في قمة الرقي المعرفي والحضاري، ولكن إهماله، مكن العقل من الخمول والتقاعس فيما أنتجه الأولون، بحجة «ليس في الإمكان أبدغ مما كان-لم يترك السلف للخلف شيئا»، الشيء الذي نادى به المصلحون في القرن السابع، ميلادي، من "توسعة مصادر المعرفية"[27]، كذلك فبنظر هؤلاء المصلحين يعتبر الواقع مصدرا رئيسيا للمعرفة لا غنى عنه. فمحمد إقبال عبر عن هذا المصدر بالتجارب والملاحظات.... أما مرجعية الواقع بنظر الكواكبي فإنها تشمل مختلف الميادين، بما فيها الواقع الغربي، وكذا التجارب الحضارية والحاجات الإجتماعىة..."[28].
لا بد لفهم القرآن المجيد أن نؤسس له  منطلقات، من شتى مختلف الأبعاد الكونية، والمعرفية، فلا يمكن من خلال الإقتصار على السنة النبوية أن ندرك البعد الكوني والمنهجي، للمنهجية المعرفية القرآنية، باعتبار أن الواقع الذي لم يشكل مصدرا عند العقل الفقهي، الشيء الذي أدى كما سبق وأشرنا إلى تقوقعه، في المحيط الشرعي، ولبس كل المصطلحات الكونية-منها الإجتهاد خاصة- صبغة شرعية لا تُخرجه من المحيط والدوران الفقهي، لهذا نجد أن دعاة الإصلاح خاصة الأستاذ الإمام وتلميذه السلفي المجدد، قد كسرا الرؤية المعرفية للفقهاء في تفسير القرآن المجيد "ويكفي أن نعلم بأن رشيد رضا قد رجح العلوم الكونية  على  الفقهية والكلامية في فهم القرآن... الأمر الذي دعاه إلى الجمع بين العلمين الكوني والديني. كل ذلك مما له دلالة على ما للواقع من مرجعية معرفية تأسيسية لفهم النص"[29]، وذلك ما نادى به محمد أبو القاسم حاج حمد، وهو منطلق الجمع بين القراءتين، والإقتداء بالتأسيس الإبراهيمي لها[30].
 يشير لأستاذ محمد يحيى إلى أن "جعل العلوم الطبيعية أهم أركان تفسير القرآن، قد عمق من مرجعية الواقع كمصدر معرفي أساس"[31] في فهم المحتوى الكلي، والكوني للقرآن المجيد، فالواقع يكسر البنية التقليدية للمفكر الديني، من خلال اعتماده "على الواقع كمصدر رئيس وأساس للمعرفة جعله يبعد نفسه من الممارسة التقليدية لدى المفسر والفقيه"[32]، فالركود الفقهي في عدم استثمار الواقع كمصدر أساسي للمعرفة، وكمصدر في تفسير القرآن إذ "لجأ المفكر إلى التعامل مع النص؛ تارة بالتأويل والتوجيه بحسب ما تفرضه المعرفة المستوحاة من الواقع وأخرى من حيث اعتباره مجملا يحتاج إلى التفاصيل المستمدة من النظر إلى الواقع واعتباراته "[33].

إن مفهوم الفقه عند تلمـيذ الأستاذ الإمام، يشكل مقاصد الشريعة، بمفهومها القرآني، وليس التحقيق في الجزئيات والفروع، فالسيد رشيد رضا اعتبر أن المراد بكلمة «الفقه» كما وردت في نصوص الشريعة، ومنها النصوص النبوية؛ هي معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، وليست هي علم أحكام الفروع المعروف"[34]، يستدل بحجة أن "رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل هذا الفقه المقاصدي في الغالب"[35]، وهذا رأي نوافق الأستاذ محمد يحيى فيه، لأن كبار الصحابة كانوا مقاصديين في الأحكام، وليس في الفروع الجزئية التي لا طائل منها.
تشكل المرتكزات المعرفية عند الأستاذ محمد يحيى "جملة المصادر والمناهج والأصول التي يُعتمد عليها في توليد وتوجيه الرؤى والمضامين المعرفية، وهي ثلاثة كما يلي:
1-              المصدر المعرفي: وهو المنبع الذي تصدر عنه المعرفة بالنشأة والتكوين والتأسيس، كالنص والعقل والواقع.
2-             الآلية المعرفية: وهي الطريقة التي تتم فيها عملية تكويم المعرفة وتأسيسها بهيئة مفاهيم مستنبطة وقابلة للتوظيف...
3-             المولدات والموجهات المعرفية: وهي تلك الأصول التي تعول عليها الآلية المفرية في الفهم والتوليد..."[36].
فالمتركزات المعرفية عند كل من الفقيه والمثقف الديني، تختلف حسب ما يشكله المصدر في عقل الفقيه وعقل المثقف الديني، فالفقيه "معلوم أن المصدر الأساسي الذي يستمد منه الفقيه معارفه التخصصية هو النص...فالصورة المخيلة عند الفقيه في الأذهان تتحدد بقدر ما له علاقة بالنص. فهو المعني بفهم النص وهضم دلالاته وإمتثالها، إلى حد يمكن قطع صلته بسائر المصادر"[37]، أما المثقف فهو غير مقيد بمصدر واحد، "فيلاحظ أنه لم يتقيد- كما عرفنا- بمصدر مرسوم ومعلن كما هو الحال عند الفقيه... مع هذا لما كان المثقف وليد المجتمع الحديث بكل ما يحمله من ظروف وملابسات حيث أن هذا المجتمع متأثر بعمق تطورات الواقع وتغيراته.... من الطبيعي أن تكون مرجعيته ومصدر تشكيل هوية عقله الثقافي تتمثل بالواقع"[38]، فالإختلاف القاطع بين كل من المثقف الديني، والفقيه، يتجلى في المصدر المعرفي "وعليه يتبين أن أساس القطعية بين المثقف أو المفكر والفقيه إنما يعود إلى الإختلاف الحاصل بينهما على صعيد المصدر المعرفي"[39].
إن الإختلاف الحاصل بين الفقيه والمثقف يتجلى في عاملين أساسيين عن الأستاذ محمد يحيى، يتجلى الإختلاف "الأول: إن الفقيه ملتزم بالحد الأعلى للنص، وهو يصرح بذلك من دون أن يضيف إليه مصدرا آخر ينافسه بالمرجعية، فالواقع يكاد يكون غائبا عنده.... وهو يختلف حاله عما لدى المثقف لكونه لا يجعل من النص حقلا تكوينيا لذهنه، وإنما يتخذه منه أداة توجيه... الثاني: إن حركة المثقف في الواقع هي-غالبا- أقوى وأعمق من حركة الفقيه، فالأخير لا يتحرك عادة إلا لهدف الإسقاط والتطبيق، فهو يرى نفسه يحمل فكرا ثابتا وجاهزا يضفي عليه سمة القداسة باعتباره مستمدا من النص" [40].
إن الفكر الفقهي، الذي أسس مجموعة من المبادئ الفقهية على المصلحة "رغم اعترافهم بهذه المقولة إلا أنهم لم يحددوها تبعا للنظر في الواقع غالبا، بل حصروها فيما يستكشف من النص والقياس، فكانوا بهذا الإلتفات أقرب إلى نفيها، أو بالأحرى نفي تأثير الواقع في العملية الإجتهادية"[41] الشيء الذي أدى إلى عجز العقل الفقهي "عن حل مشاكل المجتمع وتسديد حاجاته ومتطلباته"[42]. إذن يكون النص في البنية العقلية للمثقف والفقيه فهو عند الأخير يتعامل معه بوصفه مكونا أكثر من موجه والمثقف يتعامل مع النص بوصفه موجها أكثر منه مكونا[43]، فالنص يشكل مصدرا عند المثقف الديني ولكن ليس كمصدرية الفقيه من خلال هذا يمكن أن نقول أن الكيفية الماهية التي يتعامل بها المثقف مع النص من خلال محورين كما هما عند الأستاذ محمد يحيى:
-الأول: يتمثل بالإرتباط الإجمالي بالنص. إذ يميل المفكر إلى اعتبار النص مفهوما وواضحا من حيث الإجمال، وهو بالتالي لا يشكل ماده تكوينية مفصلة، خلافا للفقيه الذي يجعل منه حقلا مفصلا قابلا للتنقيب والتدقيق.
-الثاني: ويتعلق بالإرتكاز على مبادئ النص ومقاصده الأساسية. وهو ما يجعل النص عند المفكر يحمل صفة التوجيه، والتي بدونها لا يأمن الإنسان من التيه والضلال"[44].
كان عصر الصحابة، من أجل وخيرة العصور، رونقة في الجمال الفكري والمقاصدي، للواقع، والاجتهاد، والتجديد، فكانوا بذلك جيلا خاصا يفقه النص حسب مقاصد الواقع، والذي كان سببا في فهمهم العميق المكتسب، قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، المجسد للواقع الحقيقي للقرآن المجيد، والتنزيل النجمي للنص، في مكة والمدينة، وكذلك تعلمهم الآيات، فهما وعملا، كما هو منقول في كتب السيرة أن الصحابة لا يتجاوزون في الحفظ عشر آيات حتى يعلموا  ويعملوا ما فيها من قيم ومبادئ أخلاقية، وذلك للقوة الأخلاقية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي كانت تشتملها، تلك الآيات، بالإضافة إلى إدرك البعد المقاصدي للنص، يقول الأستاذ محمد يحيي في ذلك، "فهو اجتهاد ناظر إلى المقاصد وطبيعة ما عليه الواقع وظروفه"[45]، الشيء شكل  في العقل الصحابي قواعد أصول لفقه التي كانت غير مجتمعة في مؤلف مستقل، حتى جمعها الإمام الشافعي في كتابه الرسالة.
إن غياب الواقع الذي سبق ونقشناه في بحث لنيل شهادة الإجازة، الذي اعتبرناه مصدرا للمعرفة، والذي لا يمكن أن نجدد مفهوما نسقيا للإجتهاد، إلا من خلال تحقيق هذا المصدرية في الفكر الإسلامي، وعدم ربط الإجتهاد بالنص دون الواقع، لا يشكل ذلك منطلقا فكريا يمكن أن نحقق به الشهود الحضاري لهذا كانت أزمة الفكر الإسلامي تشكلت في "غياب الواقع من حيز التنظير والتفكير، وبغياب ما أطلقنا عليه علم الطريقة.."[46]، فالإجتهاد يُبنى ويَبني أسسه المنهجية والمعرفية، على الواقع، والحضور الزماني.
إن الألية التي تمكن المفكر الديني من الممارسة الفعلية والنسقية للإجتهاد "آلية عقلائية نقدية موجهة"[47]، باعتبار أن الواقع يشكل في نسقه الفكري مصدرا للمعرفة "وذلك لما يشكله الواقع لديه من مصدر تكوني"[48]، فالميزة اتي يمتاز به المثقف الديني حسب الأستاذ محمد يحيى، أنه "ليس للمثقف مزية يختلف فيها عن بقية الناس سوى الوساعة"[49]، في اتخاذ الكون مصدرا لوجوده المعرفي، إذ يشكل مفهوم العقلانية عند الأستاذ محمد يحيى "مفهوم غربي تنويري برز كضد للمرجعيات الغيبية والدينية، وعلى رأسها النص وكل ما يستند إليه من تفسيرا تقليدية"[50]، لهذا نجد أن الفكر السلفي في صراع مع دعاة العقلانية.
 فقد فضل مصطلح العقلائية بدل من العقلانية لأن العقلائية "ليست مفردة مدججة بسلاح الإيديولوجيا والتقويم"[51]، ومن هذا المنطلق فهي "لا تعني سوى ذلك التفكير المستند في الأساس إلى ضوابط الواقع والعقل"[52]، بذلك تكون عقلائية المثقف تقوم على أساس النقد العقلي، "إن الآلية الثقافية نقدية تنظيرية. إذ لما كان العقل المفكر مشبعا بالروح المعرفية مما له علاقة بقضايا الواقع...كما أنه يختلف عن العقل الفقيه الذي يغترب-عادة- عن الواقع وشؤنه...وعليه فإن ارتباط المثقف أو المفكر بالواقع لا يجعله اسير اعتباراته من غير ممارسة النقد"[53]، بالمقارنة مع العقل الفقهي فإنه عقل "بياني جزئوي غرضه المحافظة على بيان النص وتطبيقه على الواقع والأحداث، دون أن يعتني -عادة- بما قد يفضي هذا الأمر إلى تصادم مع الكليات"[54]، فلا مناص أن يكون العقل الفقهي، عقل جزئي، فكل ما انفك في تحليله جزئيات لا تسمن ولا تغن من اجتهاد.
تشكل الخصائص المعرفية لكل من المثقف الديني والفقيه، بعدا يشكل فارقا بين الأهداف التي يصبو إليه كل منهما، وبذلك تنمو البوادر التي تشكل الفارق النوعي في الإحاطة المنهجية لمختلف التمثلات الفكرية لكلا النمطين، فحين تختلف الرؤى في تحديد الإشكال وصياغة الإشكالية حسب المصادر الأولية للمعرفة، فذلك ناتج عن اختلاف في الكيفيات المنهجية وكذلك اختلاف في الطرح الواقعي، فتتمثل هذه الخصائص عند الأستاذ محمد يحيى في:
-الهدف المعرفي: من خصائص معرفية للفقيه، هو ما يستهدفه من التوليد المعرفي هو <<تديين الواقع>>.... في حين أن ما يستهدفه المفكر الديني من التوليد المعرفي إنهما هو <<توقيع التدين>> أو جل الأخير يتخذ صبغة واقعية، تتحقق من خلاله المصلحة الإنسانية.
-الوسيلة المعرفية: تتحدد المولدات المعرفية الديني-كما عرفنا- بكل من التجربة والخبرة البشرية وموجهات النص، وبالتالي فإن من الطبيعي أن تصطبغ المعرفة لديه بصبغة الوسائل لتحقيق ما ينشده من مقاصد... الأمر الذي يختلف فيه مع الفقيه، فتارة يتعامل هذا الأخير مع وسائل النص ومقاصده بنفس الروح والدرجة من الثبات وأخرى-وهو الغالب-يرجح الأولى على الثانية ... وبالتالي لا يتعامل الفقيه بمرونة مع الوسائل المعرفية طالما يستند في مولداته إلى البيان الماهوي.
-القيمة المعرفية: الملاحظ أن الرؤى التي يولدها الفقيه عبر آليته الإجتهادية هي رؤى قيم مطلقة.... وليس الأمر كذلك مع المثقف أو المفكر الديني. فحيث أنه يعتمد في توليده على الواقع.
-الروح المعرفية: لما كان الفقيه يعتمد في مرجعيته التكوينية على النص، وأن أغلب ما يعول عليه هو الأخبار والروايات...فالروح العامة لهذا العقل هي روح تجويزية...أما المفكر الديني فلما كان يستند إلى مرجعيته التكونية للواقع...لذا كانت روحه العامة سننية وليست تجويزية.
-الإيديولوجيا المعرفية: حيث تتشكل معالمها الفكرية في أن كلا من المثقف الديني أو المفكر، والفقيه "هي تلك العلاقة بالمجتمع، لغرض تغييرة وإصلاحه"[55] على سبيل المعالجة الفكرية لكل منهما "فإن كان الفقيه يلجأ لحل هذه مشكلة الفساد الخلقي بالوعظ والتحذير، فإن المفكر أو المثقف يلجأ إلى البحث عن الأسباب والعوامل الكامنة، وراء هذا الفساد لتغييرها.. وبالتالي فإن الإيديولوجيا التي تحرك الفقيه هي أيديولوجيا دينية، بينما التي تحرك المثقف هي أيديولوجيا واقعية.
-المحصلة المعرفية: عن كل ما سبق يتبين أن النتائج التي تسفر عن العملية المعرفية للفقيه هي ظنون اجتهادية بيانية مهاوية في الغالب... أم الحصيلة التي تسفر عن الممارسة المعرفية للمفكر فيلاحظ أنها ليست بيانية بلا عقلائية خبروية"[56].
إن المنطلق المعرفي الذي يتشكل في حقيقة الواقع الفكري، لتفاعل العقل الفقهي مع العقل المثقف، أشبه ما يكون بصلة وصل مصدري، باعتبار أن المصدر النصي، أول مصادر الوجود الفكري، والواقع كمصدر ثاني، لتحقيق مقاصد الشارع، فلا يمكن أن ننتج حقيقة معرفية ما دام هناك فصل بين النص والواقع، فالتجزؤ البحثي الذي يغوص فيه العقل الفقهي، مكنه من عدم استمداده المعرفي من الواقع، باعتباره مجردا من القداسة الإلهية، وهذا ما جعله يسبح في هيام التخلف، والركود المعرفي، والإنتاج الضيق، والواسع في الجزئيات التي لا طائل منها،  ولهذا فنحن في صدد البحث في قضية الجمع بين القراءتين، أي الجمع بين النص والواقع، من أجل تحديد محددات منهجية، تخول لنا الجمع بينهما، بغية التكامل المعرفي.
*باحث في الفكر الإسلامي


[1]- محمد، يحيى، القطعية بين المثقف والفقيه، جوانب القطعية بين البنيتين العقليتين المثقف الديني والفقيه، افريقيا الشرق، طبعة 2013، ص43.
[2]- نفسه، ص 43.
[3]- نفسه، ص 45.
[4]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 46.
[5]- نفسه، ص 64.
[6]- نفسه، ص 46.
[7]- نفسه، ص 47.
[8]- نفسه، ص 49.
[9]- نفسه، ص 49.
[10]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 52.
[11]- نفسه، ص 52.
[12]- نفسه، ص 52-53.
[13]- نفسه، ص 54.
[14]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 55
[15]- نفسه، ص 62-63.
[16]- نفسه، ص 66.
[17]- نفسه، ص 27.
[18]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 68-71.
[19]- نفسه، ص 71.
[20]- نفسه، ص72.
[21]- نفسه، ص 75.
[22]- نفسه، ص 75.
[23]- نفسه، ص 78.
[24]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 81.
[25]- نفسه، ص 81.
[26]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 82.
[27]- نفسه، ص 87.
[28]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 87.
[29]- نفسه، ص 88.
[30]- أنظر العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان، والطبيعة، جزأين وكتاب منهجية القرآن المعرفية، وكتاب الدكتور طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين، الوحي والكون.
[31]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 89.
[32]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 90.
[33]- نفسه، ص 90.
[34]- نفسه، ص 90.
[35]- نفسه، ص 90.
[36]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 121.
[37]- نفسه، ص 123.
[38]- نفسه، ص 124.
[39]- نفسه، ص 124.
[40]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 129
[41]- نفسه، ص 131.
[42]- نفسه، ص 131.
[43]- نفسه، ص 133. بتصرف.
[44]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 133.
[45]- نفسه، ص 141.
[46]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 143.
[47]- نفسه، ص 143.
[48]- نفسه، ص 143.
[49]- نفسه، ص 143.
[50]- نفسه، ص 143.
[51]- نفسه، ص 145.
[52]- نفسه، ص 145.
[53]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 143-150.
[54]- نفسه، ص 152.
[55]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 185.
[56]- القطعية بين المثقف والفقيه، مرجع سابق، ص 173-188.

أحدث أقدم