-->

قراءة في كتاب: "ميلاد مجتمع" للمفكر الجزائري مالك بن نبي




مركز الصدى للدراسات والإعلام: كريمة العبويي*
كتاب "ميلاد مجتمع" ، هو حلقة من حلقات سلسلة كتب "مشكلات الحضارة"التي أتحف بها مالك بن نبي المكتبة الحضارية الإسلامية.


وهو عبارة عن دراسة للمجتمع ، حيث تطرق لبداية تكوينه ، ونشأته وأنواعه ، إضافة إلى العوامل المساعدة على نهضته والمؤثرات التي تؤثر في مسيرته نحو التقدم والنهضة.

وفي مايلي قراءة لأهم ماجاء في هذه المضامين ، فقد استهل الكاتب كتابه بتحديد مصطلح "مجتمع"من الوجهة التاريخية التي تشمل أصول الكيان الاجتماعي ومن الوجهة التشكيلية التي تتصل ببنائه ، ففرق بين نوعين من المجتمعات:

1- المجتمع البدائي: وهو المجتمع الطبيعي الذي لم يتجدد ولم يتغير وبقي ساكنا مثل المجتمعات الموجودة في مستعمرات النحل أو النمل .

2- المجتمع  التاريخي: الذي نشأ في ظروف أولية لكنه تطور وعدل من صفاته الجذرية ، فهو مجتمع متحرك يخضع لقانون التغيير ولديه غاية تجعله يتطور عبر الزمن.

وقد استنتج مالك بن نبي أن المجتمع التاريخي يخضع للتباين المرتبط بظروف نشأته التاريخية فميز بين نموذجين :

  نموذج المجتمع الجغرافي: وهو المجتمع الذي ينشأ استجابة للتحدي الذي تفرضه الظروف الطبيعية، والمجتمع الأمريكي أبرز مثال على ذلك.

 نموذج المجتمع الإديولوجي: الذي يرى النور تلبية للفكرة مثل المجتمع الإسلامي والأوربي الأصلي. 

      أما فيما يخص بنية المجتمع من الوجهة التشكيلية فقد ميز ابن نبي بين :

المجتمعات ذات الحجر الواحد وذات الطبق الواحد ؛ أي التي تعتمد بنيتها الاجتماعية  على طبقات عديدة مثل: المجتمع البرهمي رغم جهود غاندي .

المجتمعات التي تعتمد على طبقة واحدة مثل : المجتمع الإسلامي في صورته الأولى الذي حقق نموذج المجتمع المنسجم في طبقته.

وقد تجاوز مالك بن نبي التعريف السطحي والوصفي للمجتمع ، فهذا الأخير بالنسبة له تفسير مرتبط أساسا بالوظيفة التاريخية وفق عنصر الزمن فيكون حساسا لحركة التغيير التي تتعرض لها الحياة ، فالوظيفة التاريخية لأي مجتمع كيف ما كان نوعه تتغير وفق الزمن ؛ أي وفق المتطلبات التي تفرضها الحقبة الزمنية التي يعيشها هذا المجتمع ، فبانعدام الحركة تفقد الجماعات الإنسانية تاريخها.

وبذلك خلص ابن نبي إلى أن المجتمع نظام يقوم على عناصر ثلاث:

1- الحركة التي يتسم بها المجموع الإنساني؛ بمعنى أن  التغيير والحركة هي الأساس في نشأة وتطور المجتمعات بعيدا عن الجمود والخمول .

2- إنتاج الأسباب الدافعة لهذه الحركة ؛ أي الغاية والمقصد من الحركة .

3- تحديد اتجاه هذه الحركة في التطور وبناء الحضارة .

ومن وجهة نظري، إذا أردنا إسقاط هذه العناصر بالترتيب على مجتمعاتنا العربية والإسلامية سنجد:

 1- الجمود والسكون من حيث السعي نحو التغيير الإيجابي والإنتاج ، بينما الحركة على مستوى الاستيراد والتكديس .

2- غموض وضبابية على مستوى المقصد ، فنحن نعيش في  تخبط مستمر.

3- لا نسير نحو النهضة والحضارة بل نحو التشرذم والانحلال.

وفي تحليله المتواصل لحركة المجتمع ، يؤكد  مالك بن نبي أن النفس هي المحرك الأساس للتاريخ الإنساني فصناعة التاريخ بالنسبة له تتم عبر ثلاث عوالم :

عالم الأفكار .

عالم الأشخاص.

عالم الأشياء.

وهذه العوالم الثلاث لا تعمل متفرقة وإنما تتوافق في عمل مشترك ، فالتاريخ يصنع من خلال  تلاحم هذه العوالم بفكرة يتم تنفيذها بواسطة عالم الأشياء من أجل غاية يحددها عالم الأشخاص.

فالمجتمع عبارة عن تركيب وتفاعل العناصر  الثلاثة فيما يسمى بشبكة العلاقات الإجتماعية.

لذا يري ابن نبي " أن شبكة العلاقات الاجتماعية هي العمل التاريخي الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده " أي ؛ أن المجتمع في طريقه لتغيير نفسه مشروط باكتمال شبكة علاقاته ، وهذه الشبكة ناتجة بشكل أساسي عن الصلة المتداخلة بين العوالم الثلاث التي تنسج عملا مشتركا ، فأي اجتماع على عمل يؤديه مجتمع ساعة ميلاده يعبر عن ترجمة صادقة لشبكة علاقاته.

كما أكد مالك بن نبي على معيار مهم في تطور المجتمعات وهو" المقياس القيمي لتحضر المجتمع"  الذي يكمن في تماسك  المخزون الفكري للطائفة الاجتماعية ، لكن هذا المخزون وحده لا يكفي دون صرفه والتحكم فيه من خلال  "التفعيل الإرادي" له على أرض الواقع ، وبذلك تكون له القدرة الكاملة على إعادة بناء عالم الأشياء المفقود خلال المحن والكوارث.

وفي هذا السياق استخدم مالك بن نبي التاريخ كتجربة واقعية لمجتمع(ألمانيا ) شهد حربا عالمية دمرت عالمه المادي ، لكنه ظل محافظا على مخزونه الفكري فاستطاع بذلك إعادة بناء كل شيء  .

لكن يبقى السؤال المطروح : هل وجود  عالم الأفكار وحده ، وتوفر التفعيل الإرادي له على الواقع يكفي للدلالة على مدى تطور حضارة ما أو انحلالها ؟

وللإجابة على  هذا الإشكال ،  يشير مالك بن نبي إلى نقطة مهمة تبرز في  "شبكة العلاقات الاجتماعية" فبصلاحها تتطور الحضارة وتزدهر، وبفسادها تتفكك وتتراجع ، والمرحلة المدنية أبرز مثال على ذلك ، فالشبكة الاجتماعية حينها  كانت قوية ومتينة وصلت  إلى أعلى درجات التكامل والتعاون  والقوة الأخلاقية مما يعبر عن مرحلة تحضر.

لكن مرحلة التحضر هذه سرعان ما تبدأ بالتدهور والسقوط عندما يتسلل المرض إلى الجسد الاجتماعي حيث تبدأ الشبكة الاجتماعية بالانحلال والتفكك بشكل تدريجي، ويبقى المجتمع عاجزا عن القيام بأي نشاط مشترك في صورة فعالة ، مما يعبر  عن حالة ارتخاء ، وتبدأ هذه المرحلة عندما تشهد العلاقات الاجتماعية انخفاضا مستمرا في عالم الأشخاص ويبدأ التمزق في الجسد الاجتماعي والأمراض تتفاقم ، لكن في تصوري إذا استطاع المجتمع أن يواجه هذا الارتخاء بتعزيز شبكة علاقاته، سيواصل عمله في التحضر وإن لم يتمكن من ذلك سوف ينهار وينحط لا محالة.

ثم تأتي مرحلة  التفكك : التي تعبر عن انحلال شبكة العلاقات الاجتماعية لدرجة أنها لم تعد قادرة على تلبية أي نشاط جماعي مشترك بسبب الفوضى والاضطراب وتضخم الأنا والغرور وغياب المصلحة المشتركة ….،والتاريخ الإسلامي شاهد على ذلك في المرحلة الأندلسية إبان عصر الطوائف الذي شهد تمزقا في الجسد الاجتماعي مما جعله عاجزا على القيام بأي عمل جماعي، فصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:« يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا : أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله ؟- قال: لا ....بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن ، قيل وما الوهن يارسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت»(1) .

ومن ثم فقد خلص الكاتب إلى أن شبكة العلاقات عامل أساسي لمعرفة مصير المجتمع في طريق الحضارة ، فتكون بذلك مؤشرا لتحديد مراحل المجتمع ، هل هو في حالة  تحضر ؟ أم ارتخاء ؟أم حالة تفكك و انحلال؟.

و قد أكد  مالك بن نبي على الدور البارز "للقانون الخلقي" في تماسك شبكة العلاقات الاجتماعية ، فالدين هو الذي يخلق هذه العلاقات ويؤلف بين القلوب ، كلما ضعفت الممارسة الفعلية له زاد الفراغ الاجتماعي ؛ فمالك بن نبي يستعمل مفهوم الدين باعتباره سنة كونية وتاريخية وقانونا يحكم الفكر ، فهو بذلك أمر فطري لا يفارق الإنسان ، فالبشرية لم  تبارح أمر  التدين منذ فجر التاريخ وهو كذلك قانون يحكم الفكر فيوجهه نحو أفق أوسع ويروض الطاقات الحيوية للإنسان .

      فالدين بالأساس هو المركب الكلي لعناصر الحضارة (الإنسان ، التراب ، الوقت) والحافز لتفاعلها والباعث للقيم الحضارية .

ويستدرك مالك بن نبي على المسلم المعاصر الذي لم يزاوج بين الإيمان والحياة الاجتماعية ، وهذه إحدى مشكلات العصر ، انفصال  الدين عن الحياة بمختلف أشكالها ، حيث أصبحنا مسلمين بشهادة الميلاد نظرا لما نراه من انفصال تام بين العنصر الروحي والاجتماعي ، بين المبدأ والحياة وبهذا الانفصال تلاشت العلاقات الاجتماعية وفقد المجتمع طاقته الحيوية فبات غير قادر على أداء نشاطه في التاريخ الحضاري ، متناسيا أن حقيقة الدعوة الدينية في الإسلام لم تقف عند حدود تدين الإنسان وتحقيق عبوديته لله تعالى بالشعائر المعبرة عن الإيمان القلبي وإنما امتدت هذه الدعوة لتحقيق ائتلاف بين الفرد والمجتمع والأمة والكون أجمع.

       ولتجاوز  المأزق الحضاري الذي لازلنا نتخبط فيه ، بتنا في حاجة ملحة للتربية الاجتماعية حسب مالك بن نبي  ، فهذه الأخيرة تغير الإنسان بفاعلية كما أنها من شروط الإقلاع الحضاري لتحقيق التغيير الاجتماعي المنشود .

 فالتربية الاجتماعية في جوهرها قيم أخلاقية وفي ظاهرها سلوكات وتطبيقات للقيم الروحية التي جاء بها القانون الأسمى الذي   يهدف إلى تغيير المجتمع ، وهي أيضا  وسيلة فعالة لتغيير الإنسان بكيفية تجعله قادرا على تأسيس شبكة علاقات مع أقرانه مما تتيح للمجتمع تأدية نشاطه  المشترك في التاريخ .

    وقد أراد مالك بن نبي من خلال كتابه هذا توجيه رسالة للمهتمين بشؤون المجتمع وهي عبارة عن شروط أولية  للتربية الاجتماعية ، بعيدا عن استعارة أو استنساخ حلول أو تجارب حضارية خارجية لأنها تؤدي إلى نفس النتائج في البلاد الإسلامية نظرا لغياب عنصر مهم وهو الروح عن تلك  الحلول أو لاختلافها مع روح المجتمع الآخر ، فكل مشكلة اجتماعية هي وليدة إطار اجتماعي معين نفخ فيه من روحه .

         وفي ختام هذه القراءة نستطيع القول إننا اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة تشكيل ضمير المسلم وتنظيم طاقاته وتوجيهها وفق القانون القرآني والمنهج النبوي في التغيير الحضاري   .

وهذا ما يدعو إليه مالك بن نبي من خلال فكره الذي  ينظر للحضارة من الإنسان إلى التربية إلى الثقافة التي بدورها تنتج مجتمعا حضاريا ،كما يرجع أسباب التخلف الذي أصاب المجتمع في كل الميادين إلى اختلال التوازن بين العوالم الثلاث ، فالتخلف الحضاري والمادي والجمود الفكري كلها تخرج المجتمع من دائرة الحضارة وهي ترجع لعوامل شخصية ذاتية متعلقة بإنسان ما بعد الموحدين الذي لم يعد قادرا على بناء شبكة علاقات اجتماعية متينة تؤدي دورها التاريخي .

     فالحضارة في حقيقتها مضمون تربوي ذو طابع تغييري يؤخذ من الآية الكريمة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}(2) .

___________

1- أخرجه أبو داود في سننه 222/4حديث رقم: 4227. والإمام أحمد في مسنده 270/1، حديث رقم: 21890. وابن أبي شيبة في مصنفه 7/464. والطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم: 2412. وابن أبي عاصم في الزهد، 244/2، حديث رقم: 260.

وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 24/448. وابن أبي الدنيا في العقوبات حديث رقم: 1. ورواه الطيالسي في مسنده،222/2 حديث رقم: 2801. وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء، 202/2 حديث رقم: 628، المتقي الهندي، في “كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال”، 10/22. والبيهقي في دلائل النبوة، 6/ 144.

2- سورة الرعد 11
*طالبة باحثة بسلك الماستر


أحدث أقدم