1- مقدمة:
تشكلت مع
الحملة الإستعمارية دعوات إصلاحية، نادت بها نخب دينية ومثقفة، في مختلف الميادين
التي أصابها ضرر الجمود الفكري، علها تكون
سببا في ادراك الوجود الحضاري للعرب، والإصلاحي للفكر الإسلامي، وشكل جمال الدين
الأفغاني الموقف الذي يرى ضرورة الأخذ بالثقافة الغربية، دون أن نعمق الأخذ، بل ما له صلة وصل
الإصلاح، وسبيله التقدم، والجابري في كتابه المشروع النهضوي يبين لنا ما يجب ان يتحقق كي يتم الأخذ
بالحداثة الأوروبية، وذلك من خلال القطعية مع تراث الغرب نفسه "وهكذا يمكن أن
نسجل بداية نقطة الضعف الأساسية في أطروحة هذا الإتجاه... أن ذلك يتطلب القطيعة مع
ماضي هذه الحداثة نفسها بعد الإمتلاء منه"[1]
بل يجب أن نقطع الصلة مع الفلسفة المادية التي يبني عليها الفكري الغربي مبادئه
وعلمه، وأن نستفيد طبعا من كل ما له صلة بالإصلاح، وأخذ السنن الكونية، التي أحسن
الفكر الغربي التعامل معها، فأحدث بذلك قفزة علمية هائلة، مكنته من السيطرة على
الوجود العالمي في مختلف مجلات العلم الطبيعي والتكنولوجي،..
ولتيار النهضوي في الفكر العربي الحديث
والمعاصر محطات لا زالت محور التفاعل الفكري في إمكانية تحقيق نهضة علمية من خلال
دراستها، حيث شكلت منطلقات فعلية، مكنت الفكر الإسلامي الحديث من تحقيق انسلاخ
نسبي واضح المعالم من الفكر التقليدي الذي لا يزال في جمود وانحطاط القرن الرابع
الهجري، هذا فضلا على أن الفكر الإسلامي الحديث في مرحلة ما بعد سؤال النهضة الذي
طرحه محمد بسيوني عمران في رسالة موجهة إلى شكيب أرسلان، الذي عنون به كتابه
<<لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم>>.
كان ولا يزال توريث الإستبداد الملكي
للأبناء، السبب الأول في تفشي عدوى النرجسية بين الأبناء ما أدى إلى غياب تام لمبدئ الشورى، في الفكري السياسي الإسلامي، وفي
الدولة العثمانية خاصة، ما استفحل من تعمق الأزمة العثمانية، وقد لعبت أوروبا الإستعمارية التوسعية دورا في الأزمة
التي افرنقعت بها الخلافة العثمانية إلى دويلات، "لاشك أن الإدراة الفاسدة قد
زادتها خطرا، عل إلا أن سببها الحقيقي، كان خارجيا،
يعود إلى توسع أوربا الجغرافي شرقا وغربا" [2]
وكان الجمود على القديم، والتركيز على
الفتوحات الإسلامية، أهم منطلق عمق الأمة في سياسية الدولة العثمانية، هذا في الجانب
السياسي، أما الجانب الإقتصادي فقد تمثل في المراكز التجارية، المنشأة في
الأوقيانوس الهندي فقد فككت الخطوط التجارية، التقليدية بين الإمبراطورية والعالم
الخارجي في آسيا وأوروبا... مما زعزع مالية الدولة وأنزل الضرر بالطبقات المنتجة، وكنت النتيجة أن
ازدادت الضرائب وتقهقرت الزراعة والحرف وجلا السكان عن الأرياف"[3].
وكان هذا الفكر،-الفكر الإسلامي الحديث-
أيضا
يلقب بفكر النهضة ومتعلق بالفكر الغربي كما يقول الدكتور زكي الميلاد[4]،
أما الفكر الإسلامي المعاصر "فقد ارتبط بالواقع الذي جاء بعد نهاية الخلافة
العثمانية في النصف الأول من القرن العشرين"[5]،
كما سبق، إذ يفرق الدكتور رضوان السيد، بين القضايا التي كان كل واحد منهما محط
النظر الفكري في ذاته، فالفكر الإسلامي الحديث كانت إشكاليته إشكالية التقدم
والنهوض، أي الإجابة عن سؤال لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا، محاولا فك عقدة تقدم الغير
كما أنه ارتبط ارتباطا وثيقا بالدولة، أما من ناحية التوجه الإبيستيمولوجي للفكر
الإسلامي المعاصر، فقد كانت إشكاليته؛ إشكاليته الهوية ووسائل حفظها.
كانت الدعوة الإصلاحية التي نادى بها
جمال الدين الأفغاني، ، في أواخر القران التاسع عشر، حركة انتقادية تتحدى الوجود
الغربي في العالم الإسلامي، خاصة الإنجليزي في الشرق، الذي أحدث تحولا في مسار
تاريخ الوجود الفكري للثقافة الإسلامية، فمن خلال تلك الحقبة الزمنية كان فجر
الفئة المثقفة في العالم الإسلامي والعربي
بدأت في الظهور، من رجال الدين، والعلماء، فقد "كانت فئة العلماء الدين
المغلقة هي الفئة الوحيدة التي تخرجت منها النخبة الثقافية في العالم العربي"[6]،
حيث كانت محتكرة للعلم والمعرفة الدينية، ولا يجوز لأي كان أن يتعرض لها، سواهم، فقد
ظهر مع ظهورهم الفكر النقدي، واضمحلال الفكر التقليدي، الذي كان يشكل عائقا أمام
تكون الملكة النقدية، للعقل العربي في التراث الإسلامي، وحصر العلم في فئة معينة
دون غيرها، ويضيف الدكتور هشام شرابي "
كانت طبقة العلماء تحتكر المعرفة والنشاط الثقافي لأجيال عدة، حتى أواخر
القرون الوسطى، لكن تأثير التعليم، والأفكار الجديدة، كسرت هذا الإحتكار
تدريجا"[7] ، حيث شكل خطابه الذي
يقوم على تشكلات سجالية "غير أن الخطاب الذي استعملته هذه القضية ليس خطاب
إثبات وحسب بل هو خطاب جدل وسجال أيضا:
1-
إنه كان يرفض أسس الحداثة الأوروبية. 2-ويتهم دعاة الأخذ بها بالغفلة والعمالة وب(الخيانة).
3- أما ما يقدمه هذا الخطاب كبديل إيجابي فهو مجرد الدعوة إلى الأخذ بالإسلام كما
كان عليه في أول أمره"[8].
يتبين إذن أن الأفغاني قد سلك مسلك السياسة، من
أجل النهضة بالفكر الإسلامي، "لقد وظف جمال الدين الأفغاني الدين من أجل
السياسة.. مما ابتعد بمشروعة الإستنهاضي عن النهضة بمعنى الإصلاح والتجديد"[9]
فقد كان بعده السياسي حسب الدكتور الجابري كان ضعيفا "فقد جند جمال نفسه لحمل
أمم الشرق أو أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها على النهوض ضد الغرب المستعمر
وضد حكام الذين يهاذون الغرب...ولكنه لم يكن يمتلك أي مشروع سياسي بديل"[10]
الشي الذي يشير إليه المضمون، أن الإصلاح والنهضة لا بد لها قبل أن تنطلق إلى
الدعوة العامة يجب أن تُكون مشروعا بديلا من مختلف المنطلقات الإصلاحية، وهذا ما
نراه سببا في عدم بزوغ ثمار الحركات الإصلاحية، أنها لا تقدم بديلا من أجل
الإصلاح، فالإقتراح الإصلاحي والنهضة، دون
اقتراح البديل، سبب أولي في فشل الدعوة.
2-
التجديد
كمصطلح شرعي:
كان تجديد الفكر العربي، في تلك الفترة لقي قَبولا واسعا، في ذات الوقت لقي
رفضا قاطعا من قبل المقلدين المحافظين، الذين لا طاقة لهم للممارسة الإجتهادية
وتفعيل كل المنطلقات النقدية في سبيل تحقيق التجديد القرني، يرى الدكتور هشام
شرابي أنه لتحديث الفكر العربي" مهمتين مفصلتين، ولكن متممين بعضهما، لبعض
وهما: إضفاء الشرعية على التجديد، ونسف الأشكال الفكرية والإجتماعية القديمة"[11] لكن
السؤال الذي يطرح هنا هل التجديد مفهوم غربي؟ نجيب أنه ليس مفهوما غربيا بل هو
عربي تضمنته جملة الأحاديث النبوية، فلم تكن هناك حاجة إلى إضفاء شرعة على هذا
المفهوم فهو مفهوم شرعي أصيل.
ننقل هنا مفهوم التجديد الذي ورد في
والحديث النبوي الشريف الذي تناقلته الأمة جيلا عن جيل، فيما يتعلق بالتجديد، قوله
صلے الله عليه وسلم عن أبي هريرة عن رسول الله الله عليه وسلم قال: <إن الله
يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها>"[12] .
ويعلق الدكتور
القرضاوي على هذا الحديث بقوله أن الهدف منه" بعث الأمل في نفوس الأمة بأن
جذوتها لن تخبو وأن دينها لن يموت وأن الله يقبض لها كل فترة زمنيه ـ قرن من
الزمان ـ من يجدد شبابها ويحيي موتها"[13]
.
نجد أن ما
يتضمنه الحديث في ثناياه من منهج فكري أن "التجديد بمعناه الأعمق هو تجديد
لمنهاج الفهم وبناء لقدرات العقل على استنطاق الأصول وليس ارتجاعا آليا واعادة ضخ
كمي للنصوص، وهو من ناحية ثانية إدراك لأثر الظروف التاريخية في صياغة مفاهيم
ومقولات الأسلاف والأجداد والقدرة على مراجعة تلك المقولات على
ضوء ما بلغناه من المعارف الإنسانية الحديثة التي تجاوزت ما عرفه السابقون من
الأباء والأجداد"[14]
.
بالنظر إلى
مفهوم التجديد، نجد أنه يحمل مجموعة من الدلالات التي تدل على النحو الذي قاله الدكتور
عمر حافي من تجديد منهج الفهم للنصوص الدينية للقرآن والسنة والإِلْمَام بالظروف
التي سنحت وكانت سببا للعلماء من السلف كالشاطبي والرازي والشوكاني... في صياغة
المفاهيم والمصطلحات التي جعلتهم يتفاعلون مع النص، في إدراك قصد الشارع فمن دون
"تجديد الفهم ومناهج التفكير والبحث والاستقصاء لا يمكننا تنزيل الدين
وتوظيفه في واقعنا الإنساني ومن غير هذا التجديد المنهجي لا نستطيع إصلاح مجتمعنا
والإرتقاء بها نحو الفضيلة والخيرية"[15].
3- الإتجاه الفكري الإسلامي في حماية
الإستعمار:
كان المجدد و الداعي لصهر الفكري في الفكر الغربي،
أحمد خان أحد المجددين الذين كان دعوتهم خادمة للإستعمار الغربي في بلاد الهند، كما سبق وأشرنا
"فأخذ طريقا آخر في خدمة حكام
الإنجليز، بتفريق كلمة المسلمين وتبديد شملهم...ولقب نفسه بالطبيعي، وأخذ يغري
أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين...فراق الحكام الإنجليز مشربه، ورأوا فيه خير وسيلة لإفساد قلوب المسلمين"[16] وأسس بذلك مؤسسة تعليمية، بناء مدرسة في
<عليكره> وسميت بمدرسة <المحمديين>، حيث كان للإنجليز دور في رعايتها
بكل مختلف الجوانب المادية والفكرية، وكانت فخا وقع فيه الكثير من الشباب الباحث
عن ضالته.
فحركة أحمد خان، إذن من هذا المنطلق، يمكن القول
بأنها كانت مادية الفكر، طبيعية في مواجهة التحدي الواقعي، الذي أصبح يميل ميلة
الإعجاب إلى الفكر الغربي، داعيا بذلك إلى تقليد الغرب في مختلف أسسه الفلسفية
الوضعية، لما أحرزه من تفوق في الفكر والمعرفة، فكان للمستشرقين دور في تبلور
وإرساء المنهج الفكري للإستعمار، ومن أجل بلورة دورهم في تثبيت الفكر الإستعماري
في البلاد الإسلامية، اتجهوا لدراسة الفكر الإسلامي، من خلال ثغراته الفقهية-
ونقصد بها الإجتهادات التعصبية لكبار تلاميذة علماء المذاهب- مفترين بذلك على
الأصول الفكرية والمصادر الأصلية للمعرفة، بهتانا وزورا عظيما، نتيجة سوء الفهم
وسطحية الإستشراق، ونتيجة للتحفظ اللامنهجي للتراثي.
4- اتجاه برز لمحاربة الإستعمار:
كان كل
من الأفغاني وتلميذه الأستاذ الإمام، قد ردا على المستشرقين بكاتب الرد على
الدهرين، وقد انتقداه مدافعين عن ضرورة الوجود الإسلامي، وأحقية المتابعة الكونية،
وذلك بمنهج فكري رصين، قائم على تحرير العقل من اصر التعصب المذهبي، وفي ذات
السياق التاريخي، نجد أن الدكتور محمد إقبال، هو الأخر لم يسمح بتجاوز هذه النقطة
الوضعية، وذلك برده الفلسفي، العميق، في كتابة تجديد الفكر الديني في
الإسلام" والذي برهن من خلاله على غلو المنهج الإسلامي على الفلسفة الوضعية،
التي نادى بها أحمد خان من أجل تقليد الغرب بما له وما عليه.
5- الإصلاح الواقعي للأفغاني:
كانت
رحلات الأفغاني في معظم بلاد الإسلام شرقا وغربا، قد مكنته من إصابة الداء الذي
تعاني من الأمة الإسلامية من مختلف الجوانب، فقاد كانت بالنسبة له مفتاحا للإحاطة
بمختلف الجوانب من كل جهة في جميع أقطار البلاد الإسلامية وفي الإتصال المباشر
الذي كان من قبل الأفغاني بالعالم الغربي قد مكنه من أن " يضع أمام سامعيه (مثلا منظورا) من
الحياة التي يريد أن يصل إليه المسلمون ولكن عن طريق التمسك بإسلامهم الذي أودع في
كتاب الله"[17]،
فالإمام المصلح الأفغاني، هنا يشترط أن تكون النظرة إلى الغرب نظرة ليست تقليدية،
ولا تقليدا عن غمى، بل نظرة تكون للمسلم، الإصلاح الكلي، في ظل الإسلام، الذي سطره
الإسلام، في مكنون القرآن المجيد،
أدى هذ الإحتكاك الفكر الغربي بجمال الدين
الافغاني إلى أن تظهر، حركته في حركة سياسية بامتياز، وكان نقده وإصلاحه سياسا،
شاملا، الذي شكل في حركته نمطا إسلاميا لا حزيبا منفع، ونجده يقول بالأخذ من
الحضارة الغربية عكس ما قاله شرابي، يقول الدكتور البهي "يتحدث عن الاخذ ما
عند الغرب من حضارة ومدنية وعلم... ولكن على أساس أن يكون ذلك في تلاؤم مع
الإسلام، أو لأن الإسلام يدعوا إليه"[18]،
فالأخذ عن الغرب، لا يكون عند أخذ دون قراءة نقدية، ولكن عند رؤية تشكل في الأساس
منهجا إسلاميا، وليس كما قال الدكتور طه حسين، بأخذ الفكر الغربي، جملة وتفصيلا،
بكل سلبياته، وإيجابياته، الذي سيشكل منطلقا أيديولوجيا، في الصراع الفكري، بين
الأخذ منه والرفض.
والعلة التي خرج به جمال الدين الأفغاني،" في
ضعف المسلمين بدأ بزوغه في ظهور الفرق وخاصة منه المغالية كالباطنية، وهذا التشرذم
المذهبي مكن الفكر الإسلامي من الشتات الفكري والمعرفي، وزاد الطين بلة، جامدو
المذاهب، التي لا تقبل النقد الإبيستيمولوجي، والتأسيس المنهجي للصياغة المعرفية
للمعرفة التي اتسمت داخل المذهب، ولكن لن تسمع يوما ابليس يُترحم عليه، "وهنا
نلمس شيئا جديدا في تكفير الأفغاني، أو على الأقل إلحاحا جديدا، فلم يعد الإسلام
كدين ما عناه الآن لا بالأحرى الإسلام كمدنية" [19] .
ومن منهج جمال الدين الأفغاني في الإقناع، وجعله
من مزايا الإسلام، متميزا بذلك عن باقي الأديان ب "أن الإسلام لم يشر بأصبع
إلى تقليد الأباء بل العكس من ذلك أنه قد انتقد التأسي بهم جهلا دون علهم، وأن
الإسلام دين عقلي يخاب من كان له عقل وألقى فكره العقلي إلى التدبر
الإبيستيمولوجي، وبهذا يتضح أن جمال الدين الأفغاني قد أقام مشروعه الإصلاحي، على
أساس إسلامي لا لبس فيه، وكان نظرته إلى الإستعمار نظرة متطفل إلى الحياة
السوسيولوجية، للمجتمع المدني الإسلامي وبهذا نجد أن النزعة او الإشكالية الأساسية
في الصراع القائم بين المصلحين والفكر الإستعماري ولاية الأجنبي على المسلمين.
فلا
يمكن للواقع السوسيولوجي المسلم، أن يقبل
ولاية الذمي، الذي كان في نظره -بنظرة احتقارية- يدفع الجزية، ولا شأو له في
الواقع السياسية، على شأو المسلمين في
الإدراة العمومية، فهنا برز الصراع الفكري هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان هناك من
يقبل هذه الولاية، كأحمس خان بحجة إيديولوجية، مفادها تحرير العقل المسلم، من
خرفات الدين، والقطعية، الكلية مع الدين والتراث، كما انتهج ذلك الغرب، في
صورة ابستيمية، غير مستقرة على الثبات
الإيديولوجي الذي بنت عليه السوسيوثقافية الغربية، منهجها البرغماتي، وبين من يرفض
هذه الولاية، كرفض مطلق لهذا التوجه الذي سيشكل فيما بعد العرقلة الفكرية
والسياسية في وجه الإصلاح على مقتضيات ومعالم المنهج القرآني.
إن حركة جمال الدين الأفغاني والتي اتسمت بالبعد
السياسي، بشكل واضح تماما، والتي أصبح مظهرها سياسيا، كونها تحارب الفكر السياسي
للوجود الإستعماري في البلاد الإسلامية، فالغرب لم يستسغ مرارة الفتوحات الإسلامية
التي شقت طريقها إلى حدود فرنسا لشمالية، وإلى أقضي الصين شرقا، فلم ترقد نار
المرارة يوما، حتى أغارت على البلاد الإسلامية، ناقمة على وضعها الإقتصادي،
والسوسيولوجي. يقول الدكتور حوراني ""وهنا
نلمس شيئا جديدا في تكفير الأفغاني، أو على الأقل إلحاحا جديدا، فلم يعد الإسلام
كدين ما عناه الآن لا بالأحرى الإسلام كمدنية"[20]،
يضيف في ذات السياق "كان مزاج
الأفغاني السياسي يريه العظمة والضعف معا في النواحي السياسية والعسكرية.. وذلك
بقطف ثمار العقل، أي علوم أوروبا الحديثة وبإعادة بناء وحدة الأمة"[21]
هذا التحديث الذي ظهر في أواخر القرن
التاسع عشر، تجاوز الأفكار الطازجة بتعبير هشام شرابي، إلى أبعد من ذلك إلى
الخلفيات التي كانت وراء الطريقة التي تمت بها الصياغة لمختلف الأفكار القديمة،
فقد أدى هذا التحديث في الفكر العربي إلى ظهور تيارين متعارضين، ما جعل عملية
التحديث الجذرية التي بدأت مع جمال الدين الأفغاني، وتلامذته تبقى حبيسة الصراع
الإيديولوجي بين الفئتين، فئة تقاتل في سبيل حماية التراث وفئة تطرح النقد البناء،
التمحيص العلمي للتراث، مما جعل الفئة المحافظة، تكفر مختلف التوجهات التي لا
تنسجم مع توجهها الإيديولوجي، بحجة حماية المقدسات، فنقد الحقيقة التي غلف بها
الدفاع عن المقدسات تكمن في حماية المصالح الذاتية، والمكانة الخاصة التي يمتاز
بها تجار الدين في الدولة.
6-
ماسونية جمال
الدين الأفغاني بين الحقيقة والخيال:
لم يسلم جمال الدين الأفغاني من
التكفير كمن سبقه من المصلحين، والتعرض للمكائد، التي ينسجها المقلدون الذي يقفون
عائقا أمام مختلف الجهود والدعوات الإصلاحية، خوفا من زوال نعم ما هم فيه من الترف
المادي، الذي يحاربونه ويخدرون به عام الناس، فكان للأفغاني نصيب من هذ.
شكل الإتصال الماسوني للأفغاني منعطفا
لدى المقلدين الجامدين، في تكفيره وتثبيت تهمة الكفر، لما تشكله هذه الحركة من خطر
على العالم، وتعرض الباحثون إلى هذه النقطة التي شكلت فترة مهمة في حركته
الإصلاحية، بين منكر للإنتمائه، وقائل بالإنتماء.
لقد انتمى الأفغاني في الحقيقة إلى
المجمع الأسكتلندي المسوني في مصر، ويؤكد ذلك الدكتور سيار الجميل يقول "...
ذلك لأن الأفغاني كان ماسونيا في حقيقة الأمر"[22]،
ثم طرح بعد أسئلة تبين من خلالها "أن المحفل الأسكتلندي لم يحقق سياسته
وأفكاره، أسس عام 1878 محفلا جديدا تابعا لمحفل ماسونية الشرق الفرنسي"[23].
الحقيقة التي تدور حول الإنتماء
الأفغاني إلى المحفل المسوني، كانت في الحقيقة خطوة من خطوات الإصلاح التي كان
جمال الدين الأفغاني ينتهجها في محطاته الإصلاحية، ولكنه لم يدرك حقيقة هذه الحركة
بخلفيتها الحقيقة، إلا بعد سقطت الدولة العثمانية وتناثرت إلى دويلات شتى، وكان
تفشيها في عهد عبد الحميد الثاني أمرا عاديا، ولكنه أدكر حقيقتها حين سقطت الخلافي
وكان أخر سلاطين آل عثمان، لا يمكن أن نجزم قولا أن عبد الحميد الثاني أنه أدكر
حقيقة الحركة الماسونية، وسمح لها بالإنتشار، فلو أنه أدرك حقيقة هذه الحركة لما
سمح بانتشارها، وهي التي أسقطت وأنهت خلافة آل عثمان.
والأفغاني نفسه لم يدكر الحقيقة
الماسونية كما سبق إلا بعد أن توفي، فظهرت حقيقتها، يقول محسن عبد الحميد
"ليس هناك دليل فيما قرأت يدل على أن الأ فغاني كان يعرف شيئا عند الماسونية
قبل دخوله القاهرة لأول مرة عام 1870م، 1286هـ، حيث وجد القوم في مصر انضموا إلى الماسونية
العلنية فقدم طلبا سنة 1878 للدخول في الماسونية.... ومن هنا فإنا دخول الأفغاني
في الماسونية لم يكن مستغربا في تلك الأيام بحيث لا نجد أحدا من خصومه من عيره
بذلك أو حكم عليه بالفكر والفسق ولا على الذي كانوا يدخلون إلى الماسونية في زمانه
من علماء الأزهر وقضاة الشرع"[24]
7-
المثقفون
المسيحيون والإصلاح:
كان للمثقفين المسحيين العرب دور فعال
في تشكيل التجديد داخل ووسط الساحة الفكرية العربية، من أمثال، بطرس البستاني،
وفرح أنطوان، باعتبارهم ذوي ثقافة مسيحية، وانتماء عربي، وقد كان الشيء الذي ميزهم
عن غيرهم من مثقفي العرب المسلمين، عدم الإعتراف الضمني بهم كأقلية في الوسط
المجتمعي الإسلامي، فكانوا بذلك يشكلون في
مصر، ولبنان وسوريا، أقلية قليلة، فكان هذ النبذ وراء ظهورهم العلني في تحديث
الفكر الغربي بشكل واضح للمفكرين، والمصلحين المسلمين، فكان من بين ما اتفقوا عليه
لتحقيق هذا التحديث، تشكيل نموذج غربي، بكل مختلف خلفياته، السياسية والإقتصادية،
والإجتماعية، وكذلك، الفكرية والإيديولوجية، بينما كان المحافظون في تخبط فكري
وشؤم ينبئ بانتهاء الإسلام، أما بطرس البستاني فقد كان من المثقفين العرب المسحيين
الذي كان لهم دور في النهضة العربية، فقد كان "منصبا على نشر الفكرة القائلة
بأن الشرق الأدنى لا ينهض إلا بالإطلاع على فكر أوروبا الحديثة واكتشافها" [25] مع ذلك "لم يكن ليرضى بالتقليد الأعمى
الذي لا يميز بين الصالح والطالح... فالواجب أن تقبل هذه العادات أو تُرفض حسب
قيمتها"[26]،
فمنطلقه الفكري، كان النقد البناء لأفكار
الغربية.
8-
خلاصة:
قامت النزعة الإصلاحية التي دعى إليها
مثقفو الفكر العربي، تقوم على مجموعة من المبادئ والأسس، فلكل حركة إصلاحية خلفيات
تتمثل في أساس تكونيها الفلسفي، والأبعاد النظرية والتطبيقية لوجودها، كانت مختلف
الدعوات التي ناشدت الإصلاح، تقوم على أساس واحد، مشترك، إصلاح المجتمع والعقل
الإجتماعي، بدل العقيدة، وإصلاح المجالات الشكلية والإجرائية. إن حقيقة الإصلاح،
يكمن في تجديد التدين، الذي يتغير من قرن إلى قرن، بمختلف العوامل، الاجتماعية
والسياسية والإقتصادية، والفكرية، والتشكل الذي نادى به المحافظون لم يكن في محله،
كون الإصلاح والتجديد سبيل لتحسين الأوضاع السياسية والإقتصادية، والإجتماعية، التي
يعاني منها العالم الإسلامي، من تخلف فيما سبق من المجالات.
* باحث في الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح.
[1]- الجابري،
محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة،
2013، ص 122.
[2]- حوراني، آلبرت،
الفكر العربي في عصر النهضة، 1798-1939، دار النهار، ترجمة كريم عزقول، الطبعة
الثالثة، 1977 ص 53.
[3]- نفسه، ص
53.
[4]- الميلاد،
زكي، جمال الدين الأفغاني وتطور الفكر الإسلامي، جمال الدي الأفغاني وعطاؤه
الفكري، ومنهجه الإصلاحي، حلقة دراسية، تحرير إبراهيم غريبة، المعهد العالمي للفكر
الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الطبعة الأولى، 1998، ص
327.
[5]- الميلاد، زكي، جمال الدين الأفغاني وتطور الفكر
الإسلامي، م س، ص 328.
[6]- هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار
النهار للنشر، الطبعة الثانية، 1978، ص 17.
[7]- نفسه، ص 17.
[8]-الجابري،
محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 71.
[9]- نفسه، ص
74.
[10]- نفسه ص 74.
[11]- نفسه، ص 23.
[12]- سنن أبي داود، كتاب
الملاحم، باب: ما يذكر في قرن المائة.
[13]- القرضاوي،
يوسف، من أجل صحوة راشدة تجدد الدين... وتنهض بالدنيا، دار الشروق الطبعة الثالثة،
2009، ص 13، فصل الكاتب في هذا من يقوم بالتجديد إجابة عن سؤال هل الجماعة هي
التي تقوم بالتجديد؟ وكان في هذا ان لكل مجال مجدده، في الأصول، في الحديث، وفي
الفقه... وما هو حقيقة التجديد؟ غير غافل
عن التنبيه إلى أن التجديد ليس تجديد الدين، بل في تجديد ايمان المكلفين، واحياء
ما اندثر من الدين بسبب البدع وما عمت به الأهواء، فالتجديد على ما كان مراد الشيخ
القرضاوي تجديد دين الناس لا تجديد دين الله تعالى، وهو تجديد التدين لا الدين. ص
11-38.
[14]- حافي،
عامر، "واجبات ومسؤوليات النخب الدينية في صنع المجتمع الخيري في الزمن
الجديد، مجلة التفاهم عدد 35، ص 199.
[15]- محمد
عمارة، الاسلام وضرورة التغير، كتاب العربي الثلاثون، ص20.
[16] - الفكر
الإسلامي الحديث وصلته بالإستعمار الغربي، ص 42.
[17]- البهي،
محمد، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالإستعمار الغربي، ص 77.
[18]- نفسه، ص
82.
[19]- حوراني، آلبرت،
الفكر العربي في عصر النهضة، 1798-1939، ص 144.
[20]- حوراني، آلبرت،
الفكر العربي في عصر النهضة، 1798-1939 ص 144.
[21]- انفسه، ص
145.
[22]- الجميل،
سيار، الصورة الأخرى: قراءة تحليلية وحفريات معرفية في الصيرورة التريخية
للأفغاني، جمال الدي الأفغاني وعطاؤه الفكري، ومنهجه الإصلاحي، م س، ص46.
[23]- نفسه، ص 47
[24]- عبد
الحميد، محسن، عقيدة الأفغاني، جمال الدي الأفغاني وعطاؤه الفكري، ومنهجه الإصلاحي،
م س، ص 110-111.
[25]- حوراني، ألبرت،
الفكر العربي في عصر النهضة، 1798-1939 ص 127.
[26]- نفسه، ص128.127