شكل التيار النهضوي في الفكر العربي الحديث والمعاصر محطات لا زالت محور التفاعل الفكري في إمكانية تحقيق نهضة علمية من خلال دراستها، فشكلت منطلقات فعلية، مكنت الفكر الإسلامي من تحقيق انسلاخ نسبي واضح المعالم من الفكر التقليدي الذي لا يزال في جمود وانحطاط القرن الرابع الهجري، هذا فضلا على أن الفكر الإسلامي في مرحلة ما بعد سؤال النهضة الذي طرحه محمد بسيوني عمران في رسالة موجهة إلى شكيب أرسلان، الذي عنون به كتابه"لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم".
انقسم الفكر النهضوي العربي إلى تيارين؛ تيار يدعوا إلى الوحدة وتيار داعي إلى التقدم[1]، مما فرق الفكر العربي إلى تيارين مختلفين فالدعي إلى الوحدة، يرى أنها الأساس في التقدم الفكري، والأخير يرى أن التقدم أولى من الوحدة الذي لا نجد لها مقاما في الفكر التقدمي، وقد تشكل هذا المشروع النهضوي إبان حملة نابليون[2] على مصر، فظل الفكر الإسلامي في غفلة وسبات عميق حتى أتاه المنذر من حيث لا يدري.
صحيح أن الحملة النابليونية قد ساهمت في بلورة والإستيقاظ من سبات الركود والإنحطاط، ولكن الفكر الإسلامي لا يزال يقبع في جموده، نسبيا، رغم المشاريع التي نادت بها مختلف الحركات الإصلاحية في مشارق الأرض ومغاربها، إذ وقعنا في شراك إن لم نقل فخاخ الحداثة الغربية، فقد اتجهت نظرتنا إليها إلى الجانب الأنواري[3] منها، ولم نشمل، النظرة في مختلف المنطلقات الأيدولوجية التي انبثقت عنها الحداثة الغربية.
في حين كان يجب علينا أن نفرق بين المراحل التي تجوزتها النهضة الأوروبية، فقد اتسم كل قرن بقفزة فكرية، فكان القرن الثامن عشر قرن ايديولوجيا الأنوار، والقرن التاسع عشر ايدولوجيا الإستعمار[4]، فتشكلت بذلك نزعة الفكر الإستعماري على نزعات تمثلت في النزعة التاريخانية والنزعة العلموية، والنزعة العرقية، والنزعة الإستشراقية[5]، فكانت كل هذه النزعات في خدمة الإيديولوجية الإستعمارية.
كانت ولا تزال الحركة الصهيونية تشكل عائقا أما النهضة العربية، وذلك لكونها قد احتلت موقعا استراتيجيا في الوطن العربي، منطلق ونقطة العبور بين الوجود العربي والآسيوي، مع انطلاق النهضة العربية، انطلقت معها بذلك مجموعة من الحركات الإصلاحية، والتي يمكن القول حسب الجابري أنها عرقلت مسيرة النهضة العربية، وهي "الحداثة الأوروبية، والصهيونية، والإشتراكية العالمية"[6] بالإضافة إلى المشروع العربي، فهذه المشاريع لم تحقق كل ما انبثقت من أجله إلا أنها أنجزت القليل مما نادت به، فالحداثة الأوروبية فشلت في أن تجعل "الإنسان هو القيمة العليا...أما الحركة الإشتراكية العالمية قد فشل في المجال الاقتصادي مما اضطره إلي استيراد حاجاته...أما المشروع الصهيوني.. كان أملها أن تمتد بسرعة من النيل إلى الفرات.. استطاع العرب، رغم انهزامهم في المعارك العسكرية، أن يبقوا على إسرائيل جسما معزولا محاصرا...[7].
أما المشروع النهضوي العربي فإنه رغم المضايقات الحداثية والإشتراكية والصهيونية، فإنه حقق بعضا من ملامح الوجود الفكري، والنهضوي، "فعلى صعيد الإتحاد أصبح الإنتماء إلى الأمة العربية اليوم من الخليج إلى المحيط مسألة نهائية.... محافظته على الأساس الذي تقوم عليه أساس وحدة الأمة العربية...العمل العربي الشعبي وحتى الرسمي منه، نجح في تحجيم المشروع الصهيوني"[8]، فكما سبق وأن أشرنا إلى أن الحركة الصهيونية قد فشلت في تحقيق الحلم من الفرات إلى النيل رغم كل الإنهزامات، والإنحطاط إلا أننا استطعنا أن نحصر الكيان الصهيوني في احتلال فلسطين.
يشير الدكتور الجابري أن المشروع النهضوي العربي "قد استقى إن لم يكن كل مفاهيمه وطموحاته وشعاراته من أدبيات وشعارات أوروبا"[9]، الشيء الذي أدى إلى عدم نجاح بعض انجازات الفكر النهضوي العربي، خاصة فيما نقرره ونذهب إليه، أنه لم يُبلوِر مفاهيم الوجود النهضوي، كالإصلاح، والإجتهاد والتجديد، حيت تُشكل هذه المصطلحات الأساس العميق والمنطلق الإبيستيمولوجي للنهضة العربية، ونشير إليه في مقالة حول مفهوم الإصلاح في القرآن المجيد ودوره في إدراك البعد الإبيستيمولوجي للحركات الإصلاحية بحول الله.
مما غاب عن فكر وممارسات الحركات الإصلاحية النهضوية العربية، أن الفكرين النهضويين العربي والأوروبي، "لم يكونا ينتميان إلى لحظة تاريخية واحدة، لم يكونا يعكسان نفس مرحلة التطور[10]، فكما هو معلوم من التاريخ الأوروبي أنه قد مر عبر مراحل نهضوية، "ذلك أن مرحلة الحداثة قد قامت في أوروبا (القرن التاسع عشر) بعد مرحلة الأنوار (القرن الثامن عشر) التي قامت على سبقتها نهضة أولى(القرن الثاني عشر)"[11]، الشي الذي يتضح من خلاله أن الفكر الإصلاحي النهضوي العربي، في عمق تأخر نهضوي، مطلوب الأن في أكثر من أي وقت مضى أن ندرك الهوة الفائقة، والشساعة المعرفية بين الفكر النهضوي الأوروبي والفكر النهضوي العربي.
لا نزال في أزمة تطور المفاهيم والمصطلحات، التي كما سبق وأشرنا في غير هذا الموضع أنها المؤسس الوجودي للحضارات، فلا يمكن أن تسم بالوجود الحضاري، ونحن في صراع معرفي مع منطلقات غربية أيديولوجية، إذ لا تزال تفرزها العولمة بكل مختلف تجلياتها الفكرية والإستعمارية، وهذا ما يؤكده الدكتور الجابري، أن مفهوم النهضة لم يتطور كما ينبغي له، في النسق الوجودي المعرفي، فقد دل مصطلح النهضة على القيام والحركة عكس ما كان تحمله دلالاته في الفكر الأوروبي؛ الذي يدل على الولادة الجديدة[12]، "إن الظروف والحاجة هي التي جعلت أولئك الرواد يستعملون <النهضة> <النهوض>. فما كان من العرب في حاجة إليه هو النهوض لمقاومة الإستعمار الأوروبي"[13].
شكل جمال الدين الأفغاني المنطلق الأولي للنهضة العربية، مع تلامذته خاصة الأستاذ الإمام، حيث شكل خطابه الذي يقوم على تشكلات سجالية "غير أن الخطاب الذي استعملته هذه القضية ليس خطاب إثبات وحسب بل هو خطاب جدل وسجال أيضا:
1- إنه كان يرفض أسس الحداثة الأوروبية. 2-ويتهم دعاة الأخذ بها بالغفلة والعمالة ب وب(الخيانة). 3- أما ما يقدمه هذا الخطاب كبديل إيجابي فهو مجرد الدعوة إلى الأخذ بالإسلام كما كان عليه في أول أمره"[14].
1- إنه كان يرفض أسس الحداثة الأوروبية. 2-ويتهم دعاة الأخذ بها بالغفلة والعمالة ب وب(الخيانة). 3- أما ما يقدمه هذا الخطاب كبديل إيجابي فهو مجرد الدعوة إلى الأخذ بالإسلام كما كان عليه في أول أمره"[14].
إن البديل الذي قدمه الدكتور الجابري فيما سبق أن الأفغاني قدم مبدأ الرجوع إلى الإسلام إلى ما كان عليه، في حين أن الدكتور الجابري قد انتقد الأفغاني في عدم تطبيقه لهذا المبدأ يقول في ذلك "وهنا لا بد أن نسجل أن جمال الدين الأفغاني لم يطبق في مسلكه مع خصومه مبدأ <الرجوع إلى الدين كما كان في بدايته> فهو لم يقتد بسيرة الرسول عليه السلام في أسلوب الدعوة وتكتيكها واستراتيجيتها ... بل رماهم وجرحهم ووضعهم في موقع الخصم له"[15].
يتبين إذن أن الأفغاني قد سلك مسلك السياسة، من أجل النهضة بالفكر الإسلامي، "لقد وظف جمال الدين الأفغاني الدين من أجل السياسة.. مما ابتعد بمشروعة الإستنهاضي عن النهضة بمعنى الإصلاح والتجديد"[16]، فقد كان بعده السياسي حسب الدكتور الجابري كان ضعيفا "فقد جند جمال نفسه لحمل أمم الشرق أو أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها على النهوض ضد الغرب المستعمر وضد حكام الذين يهاذون الغرب...ولكنه لم يكن يمتلك أي مشروع سياسي بديل"[17] الشي الذي يشر إليه المضمون، أن الإصلاح والنهضة لا بد لها قبل أن تنطلق إلى الدعوة العامة يجب أن تُكون مشروعا بديلا من مختلف المنطلقات الإصلاحية، وهذا ما نراه سببا في عدم بزوغ ثمار الحركات الإصلاحية، أنها لا تقدم بديلا من أجل الإصلاح، فالإقتراح الإصلاحي والنهضة، دون اقتراح البديل، سبب أولي في فشل الدعوة.
رغم هذ الفشل الذي انتاب حركة جمال الدين الأفغاني، إلا أنه نجح فيما كان يرفضه "لقد كان جمال الدين يرفض التدرج والبدء بنشر التعليم والسير في الإصلاح الديني بخطوات متئدة متمهلة. فنجحت دعوته في تكون نخبة من العلماء والمثقفين... وكان جمال الدين يرفض فصل الدين عن السياسة مؤمنا بأن أقرب وطريق للتعبئة السياسية للأمة الإسلامية هو توظيف الدين فيها"[18]، فكنا محمد عبد الأستاذ الإمام، أحد علماء النخبة الذين كونهم جمال الدين، الذي صاحبه في مجال السياسة إلى أن تم نفيهما فأعيد محمد عبده إلى مصر شريطة أن يترك القول السياسي، فاتجه مشروعة الإصلاحي بعد ذلك إلى إصلاح منظومة التعليم، وقد مكنته التجربة السياسية مع جمال الدين الأفغاني بأن "يقتنع بسبب أنواع العثرات والفشل التي عانى منها، بأن الطريقة النهضة يجب أن يبدأ بإصلاح تدريجي عام يشمل التعليم واللغة والعقيدة والسياسة"[19].
غير أن الإصلاحات التي نادى بها الأستاذ الإمام لم تلقى قَبولا لدى النخبة التقليدية الإيديولوجية التي تحارب كل شيء باسم حماية المقدسات، بغية التمركز المصلحي وحماية المصالح الشخصية، باسم الدين، وهذا ما يشكل العائق الأساسي أمام مختلف المشاريع الإصلاحية، أن نخبة من المصلحيين لا تزال في عمق تخلفي، ترى في الإصلاح والنهضة، سببا في زوالها وتهدهد مصالحها الشخصية، فاتهم محمد عبده بعد ذلك بالكفر، وهذا مبرر التراثيين الجامدين في عدم تحقيق وكسر معالم الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي، وهذا هو الإتجاه السلفي الذي ظل قرونا كثيرة ولم يحسم العلاقة بين الدين والسياسة "وبقي يكرر نفسه ولم يستطع أن يتقدم خطوة إلى الأما لأنه لم يهتد إلى الحسم في مسألة أساسية بقيت قائمة منذ الخلفاء الراشدين، هي مسالة العلاقة بين الدين والسياسية"[20].
تشكلت إذن مع الحملة الإستعمارية صرخات إصلاحية، نادت بها نخب دينية ومثقفة، علها تكون سببا في ادراك الوجود الحضاري للعرب، وإصلاح الفكر الإسلامي، ولكنها فشلت نسبيا في تحقيق بعض ما تبنته من معالم الإصلاح، وذلك راجع إلى غياب البعد أو النظرة التاريخانية كما يقول الدكتور الجابري " فالنظرة التاريخية لا تعني مجرد النظرة في التاريخ ولا استحضار وقائعه بل تعني ادخال الزمان كعنصر محدد يجعل من تسلسل المراحل التاريخية صيرورة وليس مجرد تعاقب"[21]، أي ماهية الماضي وعلاقته في التقدم والنهضة، ما شكل ثلاثية المفكرين، "موقف يرى النهضة والتقدم في تبني الحداثة الغربية والقطيعة مع عصر الإنحطاط...وموقف يري العكس من ذلك أن النهضة والتقدم لا يمكن أن يتحققا للعرب والمسلمين اليوم، إلا بما تحقق لهم في الماضي... أما الموقف الثالث فهو موقف التوفيق بين الموقفين السابقين، ويدعو إلى الأخذ من الحدثة الغربية ما لا يناقض مع قيمنا الدينية والحضارية ومن التراث العربي الإسلامي ما يساير العصر الحاضر ومتطلبات التقدم"[22].
شكل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي الموقف الثالث، موقف التوفيق بين الحداثة الغربية والتراث الإسلامي، فقد "كانا أقرب إلى الموقف التوفيقي منهما إلى الموقفين الآخرين الذين يرتبط أولهما بشبلي الشميل وسلامة موسى ويرتبط الآخر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده"[23]، ولكن الجابري ينتقل بنا إلى البعد الذي يجب ان يتحقق كي يتم الأخذ بالحداثة الأوروبية، وذلك من خلال القطعية مع تراث الغرب نفسه "وهكذا يمكن أن نسجل بداية نقطة الضعف الأساسية في أطروحة هذا الإتجاه... أن ذلك يتطلب القطيعة مع ماضي هذه الحداثة نفسها بعد الإمتلاء منه"[24].
وختاما نقول بأن السلفية قد حققت نجاحا كان لابد من ان يتحقق منذ أن تشكلت بدايات الإنحطاط والتقهقر الفكري، والإنغلاق الذاتي على التراث، فقد استطاعت السلفية أن تبرز وأن تحرر العقل العربي والإسلامي من براثين التقليد، فقد "نجحت السلفية الحديثة في تحرير الفكر الديني من التقليد وفتحت الطريق أما الإجتهاد"[25]، وأن تكسر نظرية الحياء المغلوط، فاتجه الفكر الإسلامي إلى نوع من الوجود الفكري، في الساحة الفكرية، إذ نجد مجموعة من الكتابات الحديث والمعاصرة، شكلت قفزة اجتهادية تجديدية، في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، إلا أننا لا نزال نعاني من صلة الفكر الإسلامي الحديث بالإستعمار، والذي سوف تكون لنا فيه دراسة إبيستيمولوجية، بحول الله .
* باحث في الفكر الإسلامي
[1]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الرابعة، 2013، ص 12.
[2]- نفسه، ص 20
[3]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 20.
[4]- نفسه ص 21.
[5]- نفسه ص 29.
[6]- نفسه ص 44.
[7]- نفسه ص 44-45.
[8]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 51-53.
[9]- نفسه ص 58
[10]- نفسه ص 58.
[11]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 59.
[12]- نفسه، ص61-64.
[13]- نفسه، ص 64.
[15]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 73-74.
[16]- نفسه ص 74.
[17]- نفسه ص 74.
[18]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 76.
[19]- نفسه ص 77.
[20]- نفسه، ص 88.
[21]- الجابري، محمد عابد، مشروع النهضوي العربي، ص 120.
[22]- نفسه، ص 121.
[23]- نفسه، ص 121.
[24]- نفسه، ص 122.
Tags
قراءات في كتب