-->

قراءة في كتاب: "صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل" لعبد الفتاح أبي غدة


مركز الصدى للدراسات والإعلام: محمد بوعنونو
 مقدمة :
   ما أحوج الأمة اليوم إلى نماذج تقتفي آثارها في طلب العلم والصبر عليه، وضرب أكباد الإبل في تحصيله والتحلّي به، بل ما أحوجنا اليوم ـ في زمن شطّت بنا أدحنة الجهل والضلال فيه ذات اليمين وذات الشمال ـ إلى من يستنهض الهمم ويشحذ الخواطر، عسى أن تعود الأمة سيرتها الأولى وتتلو آثار علمائها وصلحائها قصد تحقيق النهضة المنشودة.
ومن ثَمَّ جاء هذا السفر النفيس ( صفحات من صبر العلماء ) بنماذج رائعة ومن علماء وصلحاء صبروا على الشدائد في طلب العلم، فكان أن صاروا مصابيح وأسرجة يستضاء بها، ونجوما يهتدى بها في ظلمات الجهل والضلال.
إننا في الحقيقة أمام كتاب غير عادي، أمام سفر يستحيل نبراسا لطالب العلم، وفانوسا يؤنس وحشة التعلّم، ومرشدا يهدي إلى صراط العزيز العليم.
فكانت هذه الورقة نزهة في هذا الكتاب قصد التعريف به أو على الأقل يأخذ عنه القارئ الكريم الذي لا يجد وقتا لقراءته كاملا، فكرة عامة قصد وضعه ضمن لائحة الكتب التي ينوي قراءتها، أما إن كنت قد قرأته فهنيئا لك أخي، فهذه الورقة هي لك أيضا عسى أن تذكّرك به أو تحثك على إعادة مطالعته.
ولا أزعم أني أحطت بكل جوانبه، وإنما هي محاولة من طويلب علم لا زال فالطريق، فإن أصاب فهو توفيق من الله، وإن أخطأ فإنه ما أخطأ سبيل حسن النية، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
تعريف الكتاب :
الكتاب عبارة عن أخبار العلماء العاملين والنبهاء الصالحين، وحكاياتهم وقصصهم في طلب العلم، وما واجهوه من شدائد وصعوبات، وما قدموه من تضحيات، حتى حازوا أشرف المقامات، وارتقوا إلى أعلى الدرجات. وهو فوق هذا وذلك وسيلة تربوية وأداة بيداغوجية لاستنهاض الهمم وشحذ النفوس والحث على استعاضة النوم بالسهر والراحة بالتعب، في سبيل تحصيل العلم، وحيازة شرف الإنتماء إليه ولأهله، قال الله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }.
 إشكالية الكتاب :
يعالج هذا الكتاب إشكالية مهمة، أرّقت طلبة العلم قديما وحديثا، مفادها : كيف أطلب العلم؟ فكتب في سبيل مقاربة هذا الإشكال الكثير من العلماء، من ذلك مثلا : أبو حامد الغزالي الذي كتب : ( أيها الولد ) ليبين لولده أو لأحد تلامذته حسب الروايات، كيف يطلب العلم ويصبر عليه، والطريقة التي يسلكها في تحصيله والظفر به،  وكتب في هذا العلاّمة أبو الفرج ابن الجوزي في رسالته الموسومة بـ ( لفتة الكبد ) التي يستنهض فيها همة ابنه ويرسم له معالم طلب العلم، ومن المتأخرين كتاب ( مفهوم العالمية ) للبحر فريد الأنصاري رحمه الله.
إلا أن صاحبنا ـ عبد الفتاح أبا غدة ـ امتطى صهوة الحكايات وقصص العلماء لعلاج هذه الإشكالية، وبيان كيفية طلب العلم، وأهمية الصبر على صعوباته، والسبيل الأمثل لتجاوز مثبّطاته ومعوّقاته، ذلك أن الحكايات جند من جنود الله، يثبّت بها قلوب أوليائه، ويروى أن أبا حنيفة النّعمان قال : ( الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه )، وكفى بقول الله تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } شاهدا ودليلا.
 أسلوب ولغة الكتاب :
يطغى على الكتاب أسلوب الخبر، ونادرا ما نصادف الأسلوب الإنشائي، وهذا راجع إلى كون الكتاب عبارة عن حكايات وأخبار، وما كان هذا شأنه فهو يصاغ بأسلوب الخبر لا الإنشاء.
لكن رغم أنّ الأسلوبَ خبريٌ،  إلا أن المراد منه الإنشاء، فهو عندما يورد قصة من القصص، أو حكاية من الحكايات، إنما يقول لك ضمنيا : كن مثله، أو اقتد به أو سر على نهجه واقتف أثره ...
أما اللغة فهي أحيانا جزلة قوية تحاكي لغة الرعيل الأول من التابعين وتابعيهم، وأحيانا سهلة واضحة لا تحتاج لبيان، وعلى العموم يمكن القول إن لغته مستساغة عذبة ترتاح لها الآذان وتتشقق لها أكمام البيان.
 ما في هذا الكتاب :
في الكتاب كثير من أخبار علمائنا المتقدمين ووقائعهم والشدائد التي عانوها أيام التحصيل والطلب، أو خلال حياتهم العلمية المملوءة بالخشونة والتقشف، والعقبات والمتاعب، التي احتوت واشتملت على دروس صامتة لكن عظيمة، وجب أن يطلع عليها الجيل الناشئ والشباب المثقف، قصد إدراك كيفية طلب العلم والصبر عليه، وإيجاد القدوة الحسنة والأسوة الرائعة التي ينبغي لطالب العلم التأسي بها والسير على دربها.
وقد قسّم أبو غدة سفره هذا إلى ستة جوانب من حياة العلماء :
·       الجانب الأول : أخبارهم في التعب والنصب والرحلة في طلب العلم.
·       الجانب الثاني : أخبارهم في هجر النوم والراحة.
·       الجانب الثالث : أخبارهم في الصبر على شظف العيش.
·       الجانب الرابع : أخبارهم في الجوع والعطش.
·       الجانب الخامس : أخبارهم في العري ونفاذ المال.
·       الجانب السادس : أخبارهم في فقد الكتب أو بيعها عند الملمات.
ثم ختم الكتاب بخاتمة لخّص فيها المستفادات من تلك الصفحات.
 أهمية الكتاب :
تكمن أهمية الكتاب في كونه يشحذ همم طلبة العلم، ويحثهم على الصبر ويستنهض هممهم في سبيل تحصيله، زيادة على كونه بتضمّن قصصا رائعة لعلماء أجلّاء أفنوا حياتهم في خدمة العلم ونشره والعمل به، فكانوا بذلك أنجما يهتدى بها ومصابيح يستضاء بها.
وأنت تقرأ الكتاب تحتقر نفسك وتزدريها لتقصيرها في الطلب، فيدفعك ذلك لمزيد من الاجتهاد والصبر على طلب العلم وإنفاق نفائس الأنفاس في تحصيله، وتلك هي فائدة هذا الكتاب، ومن خلالها تتجلّى أهميته.
 أنموذج مما ورد في الكتاب :
41 ـ وقال القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان، في ترجمة إمام العربية وعلومها : ( محمود بن عمر الخوارزمي الزمحشري ) المولود سنة 467 هـ، والمتوفى سنة 538 هـ رحمه الله تعالى :
( سمعت من بعض المشايخ أن إحدى رجليه ـ أي الزمخشري ـ كانت ساقطة، وأنه كان يمشي في جارن خشب، وكان سبب سقوطها، أنه كان في بعض أسفاره ببلاد خوارزم أصابه ثلج كثير وبرد شديد في الطريق، فسقطت منه رجله، وأنه كان بيده محضر في شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك، خوفا من أن يظن من لم صورة الحال، أنها قطعت لريبة ). 1
فانظر رعاك الله كيف أنه رجله شلت في سبيل العلم دراسة وتدريسا، فأين حالنا نحن من هذا الإمام وأمثاله ممن صبروا على شدائد التحصيل و متاعب العلم، والحالة أن المعلومات اليوم ثمار دانية تحتاج فقط لمن يقطفها، لكن الناس بخلاء لا يجودون عليها بالقطف والجني، وقد اشتغلوا بالملاهي وسرقت منهم زهرة أعمارهم في ما يضر ولا ينفع ويجلب الضرر ولا يدفع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
خاتمة
إن هذا الكتاب دعوة صارخة إلى التأسي بالعلماء والسير على نهجهم والنسج على منوالهم في طلب العلم والتحلّي به، والتزام أخلاقه وآدابه، وإيتاء زكاته المتمثلة في إنفاقه صباح مساء، حتى يستفيد الخلق ويحصل النفع إن شاء الله تعالى، فالمشكل اليوم ليس في التحصيل بمقدر ما هو في تطبيقه والتزام ما يقتضيه من وقار وآداب وصدق وإخلاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل، ص 75.

أحدث أقدم