مركز الصدى للدراسات والإعلام: عبد الدايم الزلماطي (المغرب)
لقد تميز
المغرب الأقصى على مر التاريخ برجالات كثر، خلد التاريخ بصماتهم ومواقفم وآثارهم
الفريدة، عسى أن يقف الخَلف على تراث أسلافهم، فيقدروه ويرعوه حق رعايته، ومن بين
هؤلاء الرجالات المشتهرة في صفحات المغرب الحديث، الزعيم علال الفاسي ذو الشخصيات
المتعددة الأبعاد؛ فهو عالم وفقيه من الطراز المتميز في حقل الدراسات الشرعية، وهو
الشاعر والكاتب والأديب، والمفكر والسياسي، ورجل القانون، وهو الرجل الغيور
المتشبع بقيم دينه ووطنه وأمته، اشتهرت شخصيته بالنضال والكفاح الوطني من أجل تحرر
المغرب من ربقة الاستعمار، تحررا فكريا واجتماعيا واقتصاديا ومؤسساتيا.
وقد رسم رحمه الله معالم الطريق المنبسط الذلول لتحرر
المغرب في كثير من كتبه، لكن ما يهمني في هذا الصدد هو كتابه الماتع المائز، الذي
وسمه بالنقد الذاتي، هذا الاسم الذي انفرد به عن غيره قلبا وقالبا، بحيث لا يوجد
كتاب آخر وُسم بنفس هذا العنوان؛ وهو كتاب يُنظِّر لمستقبل المغرب الحديث بعد الاستقلال وفق ميزان
الضمير ومحِك الاختبار، وذلك بصياغة مشروع نهضوي شامل
كإجابة عن القضايا والإشكالات الكبرى التي تبني الدولة الحديثة فكريا واقتصاديا
واجتماعيا. أو بعبارة أخرى، كإجابة عن سؤال الدين، والمجتمع والثقافة. وهي الأسئلة
المحورية التي طغت على مشروع الفاسي رحمه الله في هذا الكتاب وبعض كتبه الأخرى.
إن الكتاب الذي بين أيدينا
يُعطي للقارئ من أول صفحة الصورة الحقيقية للزعيم علال الفاسي، فهو ذو موسوعية
واطلاع كبير في حقل الثقافة الإنسانية، على اختلاف الديانات والمرجعيات
والانتماءات، إذ يقول رحمه الله في تصدير هذا الكتاب، مبرزا عصارة تجربته في
تأليفه:" ولقد بذلت فيه –علم الله- جهد المخلص الذي يريد البناء، ويسعى في
التجديد، ويعز عليه أن يترك الحيرة تعبث بعقل شباب الأمة وقلبه، وقرأت لكل فصل
منه- قبل أن أكتبه- عشرات المؤلفات العربية والمعربة والفرنسية والمنقولة للغة
الفرنسية من لغات أوروبا الشرقية والغربية وأميركا وآسيا، ودرست وجهات النظر
المتباينة، وقارنت بينها بقدر الاستطاعة، ثم عرضتها على تجاربي في الكفاح وتقلباتي
بين الكادحين في أقطار عديدة طوال خمسة وعشرين عاما".
فهذا الكتاب هو عصارة تجربة
عميقة في قضايا المجتمع والفكر والسياسة، وما يلمس فيه القارئ أيضا تلك الروح
المتشبعة بقيم الدين الإسلامي؛ إذ يعرض أفكاره على نسق منتظم ومتكامل، وكل ذلك
بأسلوب واضح لا سجع فيه ولا تكليف، يفهمه الخواص والعوام، كما مزج مشروعه الفكري
أيضا بأسلوب دعوي حواري أحيانا وبأسلوب نقدي أحيانا آخر وهو الكثير.
حين يتصدى صاحب المرجعية
الفقهية المتزنة للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية فلا غرو أنه سيأتي بما
لا يأتي به الآخرون ذوي المرجعيات المنغلقة أو الايديولويجات المنفتحة والمنبهرة
بالحداثة فقط، وهذا ما نجده عند علامتنا علال الفاسي في هذا الكتاب المتميز، فهو يَسْتقي
من نَبع الشريعة السمحة ما يُضمِّد به جِراحات السِّنين التي أصابت الأمة المغربية
إبان الاستعمار وتداعي الأمم.
يحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب
كبرى، الباب الأول تطرق فيه لمسائل الفكر المنشود، عالج فيه مجموعة من الأمراض
الفكرية والذهنية التي باتت تقف حجر عثرة في طريق البناء والإصلاح السياسي
والاجتماعي؛ وعلى رأسها داء الأنانية؛ حيث اعتبرها بمثابة طغيان يفتك بالامة
المغربية فردا فردا على حساب المصلحة العامة، كما جعلها مصدر كل النقائص الاجتماعية
التي يتخبط فيها الشعب المغربي، إضافة إلى كونها عاملا من عوامل الحروب
الاستعمارية فوق الأراضي المنكوبة بالاستعمار الأجنبي.
ثم أعقبها بصفحات تحدث فيها
عن قضية التفكير اجتماعيا وشموليا كدواء ناجع للتخلص من داء الأنانية البغيضة ومن
جميع الأمراض التي جعلت المغرب طبقات وطوائف وأشلاء ممزقة، فعبر عن ذلك بقوله:"
إن الجسم الممزق لا يمكن أن يحتفظ بحياته سليما، هكذا يجب أن ننظر إلى الحقيقة
ونحس بها".
حيث جعل من وحدة القضية
المغربية فوق كل الاعتبارات الفردية والمصالح الشخصية التي لا تزيد الجهود سوى
التقهقر والرجوع إلى الوراء، وبهذا دعا إلى ثورة فكرية قوامها الفكر والعقل، إذ يقول
رحمه الله في كلام بليغ:" لنثر على أنفسنا وعلى أوضاعنا، ولنلب نداء القلب
الذي لم تحط به الأوزار، والعقل الذي لم تعمه الأطماع، ولنكون منا الكتلة التي
تحرر المجتمع من رق الفقر، وبؤس المرض، وكابوس التعطل، حتى نصنع للمغرب المستقل
شعبا متآخيا في النفس، متساويا في الحال، متضامنا في الاستقلال".
أضف إلى ذلك فقد تحدث عن ارتجالية
التفكير، وعَدَّه من أخطر الأدواء التي أصابت العرب اليوم، وكان لها نصيبا في فشل
كثير من شؤونهم؛ لأنهم لا يُعدون للأمر عدته، بل يتغافلون ويرتجلون الأفكار في ضوء
الحاضر السريع، وذلك مثل الوجبات السريعة في المطاعم التي لا تغني ولا تسمن من جوع،
ويختم هذه القضية بدعوته إلى نبذ الارتجال، فيقول: لنثر على عادة الارتجال، ولنكن
أقدر على الإعداد والتحضير حتى نستطيع أن ندرس في أناة، ونعمل في سعة، وننجح في
الإبان، ولا يكون حظنا في الندم على ما فات". ثم أعقب هذه المسألة بالحديث عن
قضية التفكير بالواجب، وجعله هو المنهج الوحيد لتكوين الشخصية المستقلة التي تعيش
للمجموع وتحيا لخدمة الأمة.
كما تناول في هذا الباب أيضا
مسائل أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها، مثل: أرستقراطية التفكير، وتعميم التفكير،
وحرية التفكير، والتحرر الفكري، والفكر العام، وتوجيه التفكير العام، وتداعي
الأفكار، والفكر بين العصرية والمعاصرة، واختيار الأفكار.. وهكذا فعلال الفاسي
رحمه الله أولى العناية الكبرى لقضية التفكير بمجموع أجزائه وفروعه، وبكل جوانبه
وقضاياه، والغرض من ذلك هو صناعة وتكوين الفكر البناء، المستقل، النافع، السليم،
الهادف، الحر، الموحَّد..؛ فهي بمثابة نظرية شاملة لإصلاح المجتمع قوامها الفكر
والتفكير.
ثم انتقل إلى باب ثاني وسمه
بــــــــــــــــــــ التفكير بالمثال؛ تطرق فيه إلى قضايا وإشكلات عديدة، مثل:
التفكير بالمثال، الفكر الديني، الفكر الإسلامي، الفكر الوطني، الفكر المغربي،
الفكر الإداري، الفكر السياسي، الفكر الحزبي، والفكر القضائي، فهي تسعة أفكار كاملة
دعا فيها إلى تصحيح الرؤى وَوِجهات النظر في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية، وفي ضوء
الاستمداد من الماضي والاقتباس من كل ما هو صالح من الإنتاج الإنساني والمجهود
البشري لرفع مستوى هذه الأمة، والعروج بها إلى ساحة العزة والكرامة والاستمتاع
بخيرات الأرض وطبع أعمالها كلها بطابع الحب والإخاء ونشدان المثل العيا.
وأما في الباب الثالث فخصصه
للحديث عن الفكر الاقتصادي بمفهومه الشامل، وقد أخضع قضاياه لمحك الضمير ومِخبر
التحاليل، فأتى فيه بخلاصات جامعة لإصلاح الجانب الاقتصادي للأمة المغربية، مع ما
يتوافق مع روح الشريعة الإسلامية؛ منطلقا من ذات المجتمع وما يعانيه من مشاكل
وكوارث متعددة، والهدف من ذلك هو إصلاح الفكر الاقتصادي أولا وأخيرا، وهو ما عبر
عنه قائلا رحمه الله:" إن غايتنا
الأولى والأخيرة هي تحرير الإنسان، سائر أفراد الإنسان، من الاستعباد
الاقتصادي...نريد القضاء على هذه الروح وأسبابها وخلق روح تضامنية بين جميع
الأفراد من أجل ازدهار الكفاءات الإنسانية في دائرة الشغل والمهنة كما في الدوائر
الأخرى.."
وقد جعل رحمه الله لهذا الفكر الاقتصادي ثلاثة أسس
كبرى، وهي:
·
اعتبار المال وسيلة لا غاية مقصودة لذاتها، وبذلك يجب منع الاحتكار وخزن
المال والمراباة به، وفرض الزكوات والضرائب المصلحة لفساد الدخل الفاحش حتى تأخذ
الجماعة حظها، كما يجب اعتبار النظام العام الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي أثناء
التوجه للحياة المالية والاقتصادية.
·
يجب اعتبار أن الملكية في المرحلة الحالية لا تزال هي المحور الذي تتركز فيه
الحرية الشخصية واطمئنان الأفراد والدافع لهم على التزاحم في معترك الحياة، فيجب
احترامها على شرط ألا تكون سبب تجميد للثروة أو عرقلة للإنتاج ولا باعثة على الكسل
والعطل الاجتماعي، وألا تتعارض مع حق الملكية العمومي."
·
يجب اعتبار العمل ذا قيمة أكثر من قيمة المال؛ لأنه قانون الحياة البشرية
ومصدر شرفها، وهو الشرط الأساسي لكل إنتاج مُجْد في الجماعة؛ فهو واجب على كل من
يجد إليه سبيلا، وكل من له قدرة ووجد الشغل ثم تقاعد عنه من أجل الكسل فإنه يصبح
عديم الحق في القوت".
ثم أعقب هذه الأسس والأصول
الأولى للفكر الاقتصادي ببعض الشروط الفعالة لتأمينها وحسن تنزيلها وتطبيقها، يطول
بنا المقام لذكرها.
وخلاصة القول في هذا الباب أن
الزعيم علال الفاسي كان ينشد بناء عقلية اقتصادية مستقلة للشعب المغربي، بناء على
امتحان الضمير واختباره أفرادا ومؤسسات، بالإضافة إلى ما تناوله في الجانب
الاجتماعي، فهذا كفيل بتحقيق الاتجاه الوطني السليم لبناء الوحدة المغربية؛
وبالتالي التخلص من التبعية للعقلية الأجنبية التي إن أعطت أو منحتمن هنا استنزفت
من هناك، وأغلاها الحرية.
وأما في الباب الرابع والأخير
فقد تحدث فيه عن الفكر الاجتماعي، بمختلف عناصره وسماته المتنوعة؛ وهو الباب الذي
اشتمل على القسط الأوفر من الدراسة والتحليل والنقد من هذا الكتاب، ومن أبرز ما
تناول فيه على سبيل التمثيل لا الحصر: الفكر الاجتماعي؛ وفكرته الأساس هي المحافظة
على الوجدان العالي الذي تتميز به الأمة الإسلامية، وقد جعله مدخلا لدراسة كل
المشاكل الاجتماعية التي تخبط فيها المجتمع المغربي أنذاك، ثم تحدث في عنصر آخر
وسمه بـــــ كيف نفكر بالمجتمع المغربي؛ ونَص على أن التفكير بالمجتمع " لا
يتم إلا بإحداث الثورة الفكرية التي دعونا إليها، وإن التحرر الفعلي من خرافات
الماضي وأباطيل الحاضر في مقدمة العوامل على الإصلاح والكفاح من اجله".
كما تحدث عن مشاكل اجتماعية
أخرى مثل: قضية العائلة وما تتخبط فيه من مشكلات عدة؛ وذلك لبعدها عن الروح
الدينية وأخلاق الاسلام، وخضوعها لنزوات الغرائز والأهواء، ومن ثم دعا إلى ضروة
تحقيق المقصد الأسمى لمسمى العائلة والمتمثل في بعث روح الحب المتبادل بين
أفرادها، الذي يجعل من البيت الكريم سكنا بالمعنى العميق الذي أراده القرآن الكريم
من هذه الكلمة.
أضف إلى ذلك حديثه عن البغاء،
والمرأة المغربية بين العرف الجاهلي والعمل الشرعي، والطلاق، وحقوق المرأة
المدنية، والإدمان على المسكرات والمخدرات، وأغراض التربية، ولغة التعليم، ودينية
التعليم، وإجبارية التعليم، ومناهج التعليم، والصحة العامة، وغير ذلك.. من القضايا
التي يطول المقام لذكرها كاملة.
والخلاصة التي خرجها بها رحمه
الله في نقد وتمحيص الفكر الاجتماعي هي قوله:" ضرورة التجديد الملطق في هذا
البناء المغربي الخالد، عن طريق اعتماد المثل العالي الذي هو وجداننا القومي كغاية
لكل عمل، واعتماد المؤهلات السامية كعناصر بقاء لا بد منها للاستمرار وللحياة، واعتبار
المقتبسات الحية كخميرة أو مواد تلقيح ضرورية في جميع ميادين النشاط الحسي
والمعنوي".
وبهذا أكون قد عرجت على ذكر
مجمل القضايا والعناصر الأساسية التي تقدم بها الزعيم علال الفاسي رحمه الله في
هذا الكتاب الفريد، وللإنصاف فقد بذل الجهد الكبير الذي يستحق الشكر والتقدير
والاحترام على ما قدم للأمة المغربية والإسلامية جمعاء، والقارئ لهذا الكتاب يجده
يتحدث بلسان الحال والمآل؛ أي أنه يعالج قضايا تتسم بالتطور والتجديد
والاستمرارية، بحيث لا يخلو منها مجتمع ما، ما لم يسع جاهدا لمعالجتها ووئدها منذ
البداية، وذلك باتباع منهج النقد الذاتي والمحاسبة الداخلية على مستوى الأفراد
والجماعات والدولة بصفة خاصة. فما أحوجنا إلى محاسبة ضمائرنا، استجابة لقوله تعالى:"
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد:
11).