-->

محمد رحومة العزّي: يكتب "العنف ذاك الرهان الخاسر"

محمد رحومة العزّي

  مركز الصدى للدراسات والإعلام: محمد رحومة العزّي*
   قال بول ريكور مرّة في كتابه  التّاريخ والحقيقة  : " أن البصر ليظلّ قاصرا عندما يتحرّى إمبراطورية العنف (ı) " . وليس ذلك مبالغة منه  بل هو بالتّأكيد ما يحدث لأيّ باحث أو متمعّن في ما يجري من حولنا . إنّه الهلع والنذير يتبدّيان شرقا وغربا ، في كل أرجاء القارّة الإفريقيّة وفي آسيا وأروبا والأمريكيتين، بل في محيطنا العربي الإسلامي وفي مجالات حركتنا اليوميّة الإجتماعية الضيقة  ، لدى أجوارنا وعند البعدين عنّا .
إنّ المرء ليندهش ويصاب بالإحباط و بخيبة أمل عميقة من شدّة استفحال العنف ومن مدى تسرّبه ونفاذه إلى كل مجالات حياتنا بما فيها التربوي وما يعتبر عادة ميدان الأخلاق الفاضلة والسلوك القويم . ويكفي أن نذكّر، للتدليل على ذلك ، بدويّ التفجيرات تهزّ أركان المدارس ومنارات العلم وتطيح بقباب المساجد والأماكن المقدّسة في تونس والجزائر وليبيا وفي أفغانستان وباكستان وإندونيسيا ولبنان وفلسطين المحتلّة وفي العراق وسوريا ... الخ . لقد أصبح العنف عملة يوميّة كثيرة التداول من قبل الجميع وتفشّت أبشع تمظهراته، أي الحروب المدمّرة والتقتيل الفظيع في كل هذه الأماكن الّتي ذكرنا، حتّى لكأنّ " الإنسان لا يتغذّى بالخبز وحده حقيقة ، كما أعلن ذلك بيار فيو، بل وبالطّلقات أيضا (²) ". وإذا ما أردنا الحديث حسب المنطوق السوسيولوجي يمكن أن نقول أن العنف غدا مؤسسه لها قوانينها ونواميسها ومفكروها وتطبيقاتها وأجهزة إنتاجها وإعادة إنتاجها.
فما  المقصود بالعنف أوّلا ؟ وما هي دوافعه ودواعيه ثانيا ؟ ثمّ ما هي أخيرا أنجع السبل للسيطرة عليه والحد من فضاعا ته ؟
أ – مفارقات تعريف العنف
قبل مقاربة العنف ، لابّد من الإشارة إلى بعض الإحترازات الّتي يتعيّن أخذها بعين الاعتبار عند محاولة تعريفه ، إذ " يتبادر إلى الأذهان عادة أن العنف هو كل فعل شديد وقاس يخالف مجرى طبيعة وجود الشّيء أو الكائن الّذي يحصل عليه أو عنده هذا الفعل (³) ". والمفارقة هنا تكمن في أن هذا التّعريف ينطبق على جميع أنواع الكائنات من الإنسان إلى الحيوان، وهو ما يعزل العنف عن الّضمير وعن الإرادة والمسؤوليّة ، أي يجرّده من طابعه الأخلاقي ، المرتبط عادة بالإنسان ، وهو ما يحول دون محاكمته وإدانته.
أمّا ما يتداوله الكثير من الباحثين من أن العنف هو " استخدام القوّة بصورة غير مشروعة أو غير مطابقة للقانون (4) " فهو مغالط أيضا ويمكن الاعتراض عليه خاصّة بسبب ربطه بالقانون لأنّ ذلك يعني أنّ جميع " الأفعال الصّادرة عن السلطة السياسيّة القائمة وعن أجهزتها والّتي تتّصف بطابع القوّة والشدّة كالقمع والاضطهاد والاعتقالات التحفظيّة – هي أفعال غير عنيفة [ بغضّ النّظر عن الأضرار الّتي تلحقها بالمحكومين والضّحايا، فقط لأنّها مقنّنة أي ] مؤيّدة ومبرّرة بالقوانين الّتي تضعها تلك السلطة [ نفسها ] وتسهر على تطبيقها (5) " وتحاسب النّاس وفقا لها. وينتج عن ذلك أن العنف لا يصدر عن الدّول والحكّام ، بل فقط عن الّذين ليسوا في السلطة، أي عن الشعب الّذي يصبح أي تحرّك له مدانا وغير قانوني . ومثل هذه المقاربة القانونيّة توفّر مبرّرا للّفاشيّة وللأنظمة الكليانيّة والتسلطيّة وتتستّر على سلوكياتها بدعوى الشرعيّة والقانونيّة.
ويضاف إلى ذلك " أن تعريف العنف بالنّظر إلى طبيعة الفعل المادّي الّذي يستند إليه يبقى مبتورا [ هو الآخر] لأنّ العنف المعنوي غالبا ما يكون أدهى وأعنف من الأوّل (6)" أي يكون أشدّ وطأة منه. وهو ما يعني أنّ العنف يحمل معنى الإيذاء والتسلّط باليد وباللّسان، بالفعل أو بالكلمة على حدّ سواء، ولهذا حاول ريمون آرون تعريفه بقوله : " ندعو عنفا كل مبادرة تتدخّل بصورة خطرة في حريّة الآخر، وتحاول أن تحرمه حريّة التّفكير والرّأي والتّقرير وتنتهي خصوصا بتحويل الآخر إلى وسيلة أو أداة (7) " ولئنّ بدا حسب هذا التّعريف الحقوقي الّذي يقابل بين العنف والحريّة ويستحضر حقوق الإنسان ، أنّ كل ضغط هو عنف ، بما في ذلك ما تمارسه التنظيمات القانونيّة ومجرّد تقاليد الحياة الاجتماعية ، فيترتّب عن ذلك أحد أمرين : فإمّا أن تكون كل سلوكياتنا وكل حياتنا مدانة أو أنّه لا أمل في التّخلص من العنف والعيش بدونه، حتّى وإن كان ذلك لا ينسجم وطبيعة الإنسان العاقلة. ولئنّ لم يوضّح آرون نوعيّة هذه المبادرة بشكل مدقّق فإنّ غيره من الباحثين قد أضاف أنّ مجرّد التّهديد بهذا التدخّل الخطر وبإنزال الأذى يعدّ عنفا لأنّه يعدّ ضغطا معنويّا يرتكز على قوّة تتحفّز للانطلاق بعنف وبالتّالي يتضمّن احتمال شرّ ما، وينتج عن ذلك أنّ المسألة لها جوانبها وإشكاليّاتها الأخلاقيّة أيضا وليس القانونيّة والشرعيّة فقط.
 وكلّ هذه الملاحظات تبرز صعوبة الحصول على تعريف دقيق للعنف، عن طريق الاعتماد على موضوعه فقط ، أي على طبيعة الأفعال الّتي يتّصف بها.
 فترى بذلك حدود العنف تتّسع تدريجيّا من الخشونة المادّية ، إلى الضّغوط المعنويّة لتكتسح مجالات كنّا نعدّها من ميادين المعقوليّة كما ذكرنا ونستدلّ بها على قدرات الإنسان وعلى تميّزه ورحابة آفاقه. وبذلك يتأكّد طابعه الإشكالي.
ولعلّه بسبب كلّ هذه الصّعوبات ، نرى جورج قيسدورف في كتابه  فضيلة القوّة يركّز أكثر على سمات العنف دون الإصرار على حدّه وإيجاد تعريف نهائي له ، مثل الجزع ، الجنون ، الرّعب والقمع... الّتي تلتقي مع بعض التّمظهرات مثل الاغتيال، التّدمير، الاضطهاد والحروب... الخ. وقيسدورف يحلّل العنف سوسيولوجيا أي من زاوية العلاقات الاجتماعية وما يمكن أن يكتنفها من هزّات وشروخ يكون العنف من أبرز ما يترتّب عنها.
ب – مقاربات للعنف :       
   1 -  الفهم السوسيولوجي
       العنف هو دليل على عدم القدرة على التفاعل الإيجابي مع الغير وبالتّالي العجز عن الاندماج داخل المجموعات والأسر والمجتمعات . إنّه انكسار في العلاقة بالآخر ودليل عجز عن التواصل معه، وعن إقناعه بصواب الرّأي وبسداد الموقف وقيمة الحجّة وأهليّتها. عندها يعمد العاجز إلى التسلّط على الآخر وإلزامه عنوة بالإتّباع والالتزام بالموافقة " سواء أكان ذلك عن طريق ممارسة القوّة أو التّهديد بها أو بالضّغط على الحقوق والمكتسبات وإعلان الحرمان منها(8)." وبهذا يكون العنف علامة يأس ودليلا على الضّعف وإقرارا به، أي أنّه وسيلة الضّعفاء الّذين يعمدون إلى حجّة القوّة كلّما أعوزتهم قوّة الحجّة ويئسوا من امتلاكها ومن الإقناع بها . إنّه خروج عن أسس التعاقد الاجتماعي الّذي تؤطّره المواثيق والعقود، وهو بالتّالي ممارسة منفلتة وغير منضبطة أي لا اجتماعية ولا قانونيّة ، " إنّه الطريق الّتي لا رسم لها (9)."حسب عبارة آريك فايل أي طريق التّيه والضّياع. ويزيد الدّكتور خليل أحمد خليل هذا الموقف من العنف متانة، وهذا الفهم السوسيولوجي له وضوحا بتأكيده : " أنّ العنف سلوك إيذائي قوامه إنكار الآخر كقيمة مماثلة للأنا أو للنّحن، كقيمة تستحقّ الحياة والإحترام، ومرتكزه إستبعاد الآخر عن حلبة التغالب إمّا بنفيه خارج السّاحة وإمّا بتصفيته معنويّا أو جسديّا. إذن معنى العنف الأساسي هو عدم الإعتراف بالآخر... عدم الإعتراف لا يعني عدم المعرفة، بل يعني معرفة معيّنــــة ، " مقولبة " (10).
  2 -  المقاربة النفسية
      أمّا من وجهة النّظر النفسيّة، فيكون العنف تعويضا وإخفاء أو مداراة عن هذا الفشل في الالتقاء بالآخرين، ونوعا من تأكيد حضور الذّات وتفوّقها ، حتّى لا " تتهاوى وتندثر في خضمّ التّفاعلات الإجتماعية (11)" أي أنّ الذّات المتسلّطة  تسعى إلى إبراز أنيتها وإنقاذها من ذلك   بإرغام الآخرين على الانصياع لها والائتمار بأمرها. وبذلك يكون العنف " فعلا يعمد فاعله إلى اغتصاب شخصيّة الآخر وذلك باقتحامها إلى عمق كيانها الوجودي ويرغمها في أفعالها وفي مصيرها منتزعا حقوقها أو ممتلكاتها أو الاثنين معا (12)".
وهذا السّلوك هو عند البعض منطبعا في شخصيّة المعتدي الّتي تتلذذ بتعنيف الآخرين وبالقسوة عليهم. إنّ الإنسان مجبول على العدوانيّة وعلى فعل الشرّ، وهذا ما يردّده الكثيرون، وهو يملك من الرّغبات والغرائز المتحفّزة ما يجعله مستعدّا باستمرار للانقضاض على غريمه وعلى منافسيه وهو ما لخّصه فرويد في كتابه  قلق في الحضارة  بقوله : " ليس الإنسان قطعا ذلك الكائن الطيّب، ذا القلب المتعطّش إلى الحبّ... فالإنسان في الواقع يغريه أن يشبع حاجته إلى الاعتداء على قريبه، ويستغلّ عمله دونما تعويض ويستعمله جنسيّا دون موافقته، ويستولي على سلعه ويذلّه وينزل به الآلام ويضطهده ويقتله. (13) "
وكل هذه الملاحظات تعني كما يرى البعض أنّ العدوانيّة متأصّلة في كيان الإنسان الإنطولوجي ذاته وهي ليست بالأمر الحادث الّذي يمكن أن يمرّ عرضيّا بحياة الإنسان. ولمزيد تفصيل كل هذه الملاحظات فقد افترض فرويد وجود ضربين من الغرائز لدى الإنسان هما غريزة الحياة (Eros) وغريزة الموت (Thanatos) وبذلك يصبح العنف متأصّلا في الإنسان ومتجذّرا في أعماقه وفي تكوينته النفسيّة ذاتها. ولقد كتب فرويد في مؤلّفه  التحليل النّفسي ونظريّة الليبيدو يقول : " يبدو أنّ غرائز الجنس وغرائز الموت لدى الكائنات الحيّة قد تآلفت بانتظام تحت شكل أخلاط . وقد تقوم الحياة على ظهور النزاعات والمداخلات القائمة بين هاتين الفئتين من الغرائز. وقد تمنح الحياة الفرد انتصار الغرائز الهدامة بواسطة الموت. ولكنّها قد تمنحه أيضا إنتصار الحبّ (Eros) بواسطة الإنجاب (14)."
       أمّا في مجال علم النّفس الحيواني فإنّ المقارنات الّتي جرت بين الإنسان والحيوان من طرف الكثير من العلماء، للنّظر إن كان الإنسان عدوانيّا بالطّبع أم لا، لا تمكّن إلى الآن من الجزم بتوارث صفات العدوانيّة بين الأجيال وانتقالها عبر الجينات كما أنّها لا تمكّن بالتّالي من الجزم بوجود مبرّرات طبيعيّة مقنعة للسّلوك العدوانـــــــي تنبع من غريزة مستقلّة تتحكّم في هذا السّلوك، هذا كما دأب النفسانيّون من جهة أخرى على التمييز بين العنف والعدوانيّة على أساس كون هذه الأخيرة هي فقــــط " مواقف أي إستعدادات، إنّها إحتماليّة عنف، أشبه شيء بفتيل متفجّر، وهي لهذا السّبب غالبا ما تكون دفينة في أعماق كياننا (15)."
أمّا العنف فهو الخروج بهذا الإستعداد وهذه المواقف المتخفّية أو هذا التحفّز إلى مستوى الفعل والممارسة المفضوحة للعدوان وللقوّة. وما نلاحظه في كل الحالات أنّ البحث عن أسباب العنف وعن دوافعه قد ذهب بالمفكّرين بعيدا في سبر أغوار نفسيّة الفرد وفي تقليب خصائصه البيولوجيّة لعلّهم يجدون لهذا السلوك الأخرق جذورا في هذه الأعماق. غير أنّ نتائجهم جميعا بقيت غير مؤكدة وغير مقنعة، وهو ما حدا ببعض المفكّرين والباحثين الآخرين إلى طرق أبواب أخرى هي بالأساس إجتماعيّة وإقتصاديّة.
  3 – العنف فلسفيا
        من الفلاسفة مثلا، والمقصود هنا هوبز على وجه التّحديد، من ربط بين العنف والحالة الطبيعيّة ، أي أنّه جعل من العنف ممارسة تاريخيّة يعمد إليها الجميع في هذه الحالة الطبيعيّة بدافع الرّغبات المتنافسة على ذات الموضوع . وهو ما يخلق وضعا من التوتّر والعنف والتّقاتل بين الجميع يتحوّل معه كلّ فرد إلى ذئب يتربّص بكل الآخرين . والمخرج من هذا المطّب يكمن بالتّأكيد في الإرتقاء إلى الحالة الإجتماعيّة وإيجاد المجتمع المدني، أي أنّ النّاس جميعا ملزمون بالإقلاع عن ممارسة العنف والتنازل عنه، عبر التّعاقد الإجتماعي، لفائدة حاكم يتولّى المحافظة على حقوق الجميع وعلى سلامتهم وعلى أملاكهم عن طريق تطبيق القانون عليهم بشكل عادل، حتّى وإن أدّى به ذلك إلى إستعمال القوّة.
وبهذه الكيفيّة يبرز التمييز بين القوّة والعنف، ذلك " أنّ الحاكم الّذي يؤمّن بتحكيمه السّلام بين أعضاء الجسم السياسي هو حسب هوبز قويّ ولكنّه ليس عنيفا (16)". أي أنّه حريص على تطبيق القانون وعلى تنفيذ العقوبات الّتي ينّص عليها على كل من تسوّل له نفسه عدم إحترام بنود هذا التعاقد الإجتماعي وتجاوز القانون. ومن هذه الزّاوية تصبح القوّة رادعة للعنف ساعية إلى حصره والسّيطرة عليه، ومرجعها في ذلك الشرعيّة القانونيّة إستنادا إلى القول بأحقيّة لجوء الحاكم إلى القوّة شرط استعمالها وفقا لقواعد واضحة يعلمها الجميع ويتّفقون عليها وهذا يعني من زاوية أخرى " أنّ كل مجتمع يكون عنيفا بمقدار ما لا تكون القوّة موضوعا لممارسة منتظمة شرعيّة (17)".
ونحن نلاحظ أنّ العنف يتلوّن من وضعيّة إجتماعيّة لأخرى ومن إطار سياسي لغيره كما أنّه يتخفّى وراء التسميات والمصطلحات، ليظهر كلّ مرّة بعباءة ذات مقاس جديد، لكنّه يبقى واحدا في الجوهر حتّى وإن اختلفت درجاته أحيانا وتباينت مستويات إيذائه كما هو الشّأن في الإختلاف بين العدوانيّة والإرهاب والعنــــــــــف والقهر والسحق والتقتيل، والقمع... الخ، فالتّسميات كثيرة والمسمّى واحد تتكاثر أشكاله وتتعدّد أسبابه بتعدّد واختلاف المقاربات.
 ولئن ذهب هوبز هذه الوجهة فإنّ غيره من المفكّرين قد خالفه الرّأي واتخذ مواقف مغايرة، كما رأينا عند فرويد وعلماء النّفس بشكل عام، وهو ما نجده كذلك عند كارل ماركس وعند مالتوس.

  4 – الرؤية الاقتصادية للعنف
      ترفض الماركسيّة مثلا الرّبط بين الحالة الطبيعيّة وتفشّي العنف، بل هي ترى أنّه وليد الوضع الإجتماعي والإقتصادي الطبقي والتّقسيم غير العادل للثّروات ولامتلاك وسائل الإنتاج من طرف أقليّة استأثرت بكل الثروات والخيرات الإجتماعيّة بينما بقيت الأغلبيّة تعاني ويلات البؤس والحرمان والإستغلال. وماركسيا هناك صراع طبقات يولّد العنف ويغذّيه باستمرار وليس صراع الجميع ضدّ الجميع بفعل إلتقاء الرّغبات اللاّمحدودة كما قال هوبز. وبهذا يمكن أن ندفع بالأمور إلى نهايتها لنربط بين العنف والملكيّة الخاصّة سواء في المنطلق أو في الإنتهاء، أي أنّ العنف إرتبط ظهوره بظهور الملكيّة الخاصّة لوسائل الانتاج وهو باق ما إستمرّت هذه الملكيّة على قيد الوجود. ويمكن أن نجد عند الماركسيّين اللاّحقين تفصيلات أخرى أكثر تحديدا لمسألة العنف، كما سنرى ذلك في ما بعد عند جورج سوريل.
      أمّا الإقتصاديّون، فيفسّرون العنف بالعودة إلى مفهوم الندرة أي محدوديّة كميّات الغذاء المتوفّرة في الطبيعة وضغط الحاجات المعيشيّة. وهو ما أوجد إنخراما كبيرا بين النموّ الدّيمغرافي من جهة والزّيادة في إنتاج الأغذية من أخرى. ففي حين تتسارع وتيرة الأوّل حسب متوالية هندسيّة ( مثلا 2×2.×2 ×2.. الخ ) فإنّ هذه الزيادة لا تكون إلاّ حسب متوالية حسابيّة ( مثلا 2+2+2+2... الخ ) وهو ما يحتّم خوض صراع مرير من أجل البقاء يكون وقوده العنف الشامل. هذا على الأقل ما تقول به المالتوسيّة وما سارع إلى تبنّيه فيما بعد داروين جاعلا منه ركيزة أساسيّة لتأكيد قوله بعمليّة الإنتقاء الطّبيعي.
     إنّ منطق الطبيعة هو، حسب مالتوس، منطق إقصائي، عنيف، لا يرحم، وهو قد أكّد ذلك بالقول في الفصل الأوّل من كتابه  محاولة في مبدأ السّكان  : " إنّ إنسانا يولد في عالم غير شاغر لا يجد له في وليمة الطبيعة الكبرى مكانا خاصّا به. فتأمره الطبيعة بالرّحيل، ولا تتردّد في أن تضع تهديدها موضع التّنفيذ. (18)". وبهذا يكون العنف شاملا بل حتّى مبدأ للوجود ، تمارسه الطبيعة بما هو قسوة، على جميع المخلوقات، وعبر المجاعات ونقص الأغذية والكوارث البيئيّة، فتحدّد أمزجتها وسلوكها. ويمارسه الإنسان، بها هو قتل، على الحيوانات حتّى يستفيد بلحومها، وبما هو ترويض لهذه الطبيعة وحرائق لإيجاد المساحات الضروريّة للزّراعة وتوفير الحاجات وبما هو منافسة مع الآخرين من بني جنسه للفوز بالمحاصيل وبالأراضي الأخصب وبالكميّات الغذائيّة الأوفر. فكيف يمكن أن نعقب على كل هذا ؟
إنّنا نلاحظ أن المفهوم مهدّد أحيانا بالتميّع وبفقدان الكثير من توهّجه. فهل أن كل قتل عنف، حتّى وإن كان ذلك ضروريّا ويهدف إلى توفير الغذاء والمحافظة عن الجنس البشري ؟ وأين يمكن أن نتحدّث عن العنف : على مستوى الإنتاج أم على مستوى توزيع المنتوجات والمحاصيل ؟
من الواضح حسب رأينا أنّنا مطالبون بضرورة التحرّي في تحديد مفهوم العنف ذاته وفي تعريفه بشكل يسحبه من هذه الدوائر الهشة وغير المقنعة، " فحتميات الطبيعة الّتي لا مفرّ منها تتّخذ  مظهر القدر. أمّا العنف الّذي يمارسه الإنسان نحو الإنسان، فإنّه، وحتّى ولو جاء تحت ضغط بعض الإكراهات فهو ينطوي على معنى آخر يختلف عن ذلك كل الإختلاف (19)..."

    5 – العنف داخل الدائرة الأخلاقية
     إنّ تحديد العنف يستحضر الآخر، الإنسان، الضحيّة، ويتّصف بسمة أخلاقيّة لا محالة : " إنّ متسلّق الجبل الّذي يتعرّض فجأة لسقوط صخرة عليه، يقضي ضحيّة حادث. أمّا إذا كانت يد آثمة قد دفعت هذه الصّخرة فإنّه يظهر ضحيّة فعل عنف : لقد حصل تطاول على حقّ لا يمسّ هو الحقّ في الوجود (20)." وهو ما يوضّح الطّابع الأخلاقي للعنف كما ذكرنا، بعكس الغريزة مثلا الّتي لا تخضع لهذا التنميط الأخلاقي.
العنف حينئذ ظاهرة إنسانيّة قديمة وجدت منذ عهد بعيد وهي لا تزال إلى اليـوم " أداة اليقين الزّائف " على حدّ قول قيسدورف. ولم تفلح الحضارة الّتي اشترطها فرويد ولا العقود الإجتماعيّة والإرتقاء إلى الحالة المدنيّة، ولا حتّى مجتمع الوفرة الّذي تدخّلت فيه الآلة والقوى التكنولوجيّة، بل ولا كل هذه مجتمعة في القضاء على هذا السلوك وفي تهذيب الطبيعة البشريّة وتخليصها من عناصر الشرّ فيها. بل بقي العنف يجدّد نفسه ويعاد إنتاجه وبأشكال أكثر فضاعة وتدميرا.
فهو قد إتّخذ طابعا مؤسّساتيّا، أي تقليدا ومنهجا في الحكم تمارسه حتّى الهيآت الحاكمة والسلط المسؤولة داخل أطر مخصّصة لذلك ووفق تقنيات تتطوّر ويزداد هولها باستمرار، إذ هي تذهب من الإقصاء إلى الحجز، فالمستشفى والسّجن حسب فوكو، إلى مداهمات الفرسان والمحاكم والمحتشدات، فعديد الأنظمة البوليسية حسب قيسدورف، إلى عديد الوسائل والتقنيات الحديثة الّتي تجد أفظع تجليّتها في الأسلحة ذات الطّاقة التدميريّة الرهيبة. وهو ما يعني أن العنف قد غدا من رهانات التّصنيع ومؤسساته الحاليّة لتنبسط بذلك " حضارة العنف" وتتوطّد .
العنف هو حينئذ ممارسة فرديّة تبرز شغفا أحاديّا بالقوّة والمخاطرة ورغبة في الإنتصار والسّيطرة على الآخر والتّحكم في إرادته واختياره. وفي ذلك يرى فرانسوا لوجاندر تعشقا " للزّعيم، تلك الصّورة للبطل الّتي يشتبه بأن تواطؤا ما يقوم بينها وبين أعماق في الشخصيّة... تكون منطلقات لعنف سريع الإندلاع (21)"
ثمّ يمكن أن يكون كذلك ممارسة جماعيّة تقوم بها الجماعة أو المؤسّسة ضدّ بعض أفرادها لفرض الإنضباط داخلها أو ضدّ مجموعات أو دول أخرى، وتجد تعبيرتها القصوى في الحروب. كما أنّه تمارسه الجماهير أحيانا لإلزام السلطة السياسيّة أو الدولة بعدم تجاوز مجالات سلطاتها أو بد حرها تماما والتّخلص منها خاصّة إذا كانت دولة قمع ولا مساواة وهي في الواقع لا يمكن أن تكون إلاّ كذلك نظرا لطبيعتها الطبقيّة. وهذا العنف الجماهيري هو ما أسمته الماركسيّة بالعنف الثّوري لأنّه يسعى إلى التّغيير وإحلال الأفضل وإلى الدّفاع عن مصالح الأغلبيّة.
أمّا ما تمارسه الدولة فهو عنف رجعي حسب هذه الرّؤية. وعلى أساس هذا الإختلاف ميّز جورج سوريل بين القوّة والعنف. الأولى قمعيّة وتمارسها البورجوازيّة، أمّا الثّاني فهو محرّر يمجّد العدالة والفضائل الفرديّة ويحشد قوّة الدّفع لدى البروليتاريا. يقول جورج سوريل : " إنّ القوّة تستهدف فرض التّنظيم التّابع لنظام إجتماعي ما، يكون الحكم فيه بيد أقليّة، بينما يرمي العنف إلى تدمير هذا النّظام. وقد إستخدمت البورجوازيّة القوّة منذ مطلع العصور الحديثة، فيما البروليتاريا اليوم تردّ عليها وعلى الدولة بالعنف (22)".
وبهذه الأدلّة نلاحظ مرّة أخرى خضوع العنف لتبريرات إيديولوجيّة تجعل محاكمته ذاتيّة ومرتبطة بموقع المستفيد والضحيّة وانتماء كل منهما وموقعه في دائرة الصراع، كما هو الشّأن بالنسبة لقيمته الأخلاقيّة لأنّ ذلك مرتبط أيضا بنظرة الفاعل والمستهدف. فهناك دائما من يستفيد من العنف ويبرّره، وهو ما يجعل مجدّدا تعريفه ومقاربته أمران نسبيّان.
إنّ فعل العنف هو حسب قيسدورف فعل إقصائي يعدّ من الحالات القصوى الّتي تصل فيها العلاقة بالآخر أسوأ مظاهرها وهو حدّ الإغتيال فيتحوّل العنف إلى فعل تدميري يحطّم الآخر ويذهب بإنسانيّته. وإن استهدف ذلك الوجود الجسدي للإنسان أو الحقوق والحريّات وبالتّالي الوجود المعنوي، فإنّ النّتيجة واحدة في الحالتين : إبتذال الإنسان وتجريده من صفاته الأخلاقيّة ومن مميّزاته الّتي تؤسّس لإنسانيّته. فيكون بذلك اليأس ممّا هو إنساني والنّقض لكل مواثيق الوفاق بين الأشخاص وتكون الشهادة على تورّط الإنسانيّة ضدّ نفسها أي مسؤوليّتها في تجريد نفسها من أفضل القيم لتصبح متّهمة بالجنون واللاّعقلانيّة، ولذلك يؤكّد قيسدورف " أنّ ألوان الإضطهاد والحروب، تثبت عبر التّاريخ، شرّ شهادة قد تشهد بها الإنسانيّة على نفسها (23) " بالتّراجع عن كل القيم النّبيلة وبالتّجرّد من صفات الإنسانيّة.
      إنّ نتيجة العنف هي سلبيّة في كل الحالات ومحدودة ولا يمكن الإعتداد بالفوز الّذي يتولّد عنه، بل هو يظلّ عديم القيمة. وحتّى الإرغام على القبول الّذي يحدثه فهو لن يكون إلاّ مهادنة ظرفيّة بغاية مزيد الإستعداد لردّ الفعل والعودة مجدّدا لمواجهة العنف بمثله، فينطلق بذلك مسار العنف والعنف المضاد بأشكال قد تكون أكثر شراسة.
إنّ إعتماد العنف يعني أوّلا نقصا لدى من إختاره، فمن لا يحترم إنسانيّة الآخر ولا يعامله على قدم المساواة ويعترف به كذات لها حقوقها وحرّيتها ومقوّماتها، إنّما يستدلّ بذلك على عدم بلوغه مرتبة الإنسانيّة وعلى محدوديّة آفاقه وعدم جدارته هو ذاته بالإحترام.
 ج -  في الترفع عن العنف
       إنّ التعامل الإيجابي مع العنف يستدعي أوّلا إدانته والتّنديد به أي فضحه وأيضا مواجهته حتّى من قبل المستهدف له، لأنّ السكوت عن العنف هو تواطؤ معه وتشجيع له وبالتّالي مسؤوليّة واشتراك في إقراره كشكل للتّعامل بين البشر. الحلّ يمرّ أيضا عبر إقرار الإنسان لميزاته بما هو كائن أخلاقي عاقل وتأكيد قيمه وقدرته على إقرار الوفاق والتواصل. وهو بالتّالي يمرّ عبر الخطاب والحوار المتبادل، وكذلك عبر إحياء القيم والمبادىء السلوكيّة المتطوّرة والسّامية أي أنّه يستدعي  انبساط القيم الأخلاقيّة. وبذلك فقط يمكن التحكّم في العنف ووضع حدّ له، وليس عبر الردّ عليه بنفس السلوك.
أمّا على المستوى السياسيّ فإنّ الحل يمرّ أيضا عبر القضاء على أسباب العنف، أي إقرار مناخ ديمقراطي تعدّدي يتميّز بالأريحيّة وإقرار حقوق الإنسان واحترام الآخر والإصغاء له. كما أنّه يستدعي أيضا توزيعا إجتماعيّا عادلا للثروات والحدّ من التمايز الطبقي ومن التفاوت المجحف بين الفئات الإجتماعيّة. أي " أنّ الخروج من هذه الدّائرة المفزعة يمكن أن يرتجى بإستيعاب العنف وضبطه وتخفيف وطأته بما هو أكثر عدالة أي بعنف أقلّ [ إنّ كان القضاء عليه بشكل كليّ غير ممكن ]، وهذا يتمّ بإبعاد السياسة عن المواقف المطلقة لأنّ المجتمع المدني الّذي تسوده نسبة عالية من العدالة هو الّذي يكون قابلا لإعادة النّظر فيه بإستمرار (24)."
وفي كل الأحيان فإنّ زحزحة العنف وإلغاءه أو على الأقلّ الحدّ من طغيانه والتخفيف منه إلى حدّه الأدنى يستدعي أيضا وإلى جانب ذلك إحياء القيم والمبادىء السلوكيّة  المتطوّرة والسّامية، أي أنّه يستدعي إنبساط القيم الأخلاقيّة وإحياء الفضائل منارة نهتدي بها جميعا في كل قول نلفّظ به وفي كل فعل نأتيه أي توخّي السلوك الحضاري كقيمة تشهد على جدارة الإنسان بما هو قيمة القيم وفحوى الإلتزام وأساس كل البناءات العقلانيّة والحضاريّة والأخلاقيّة.
*باحث في المجال التربوي (تونس)
 ____________________
الهوامش
      1-  بول ريكور : التّاريخ والحقيقة ، ص 233 ،  نشر سوي Seuil ، باريس 1955 .
  2-  أورده رضوان جودت زيادة بمقاله خطاب العنف ، دراسات عربيّة ، عـــدد1-2 ، ص 95 ،  بيروت 1998 .
  3-  الموسوعة الفلسفية العربية المجلّد الأوّل ، مقال : عنف ص 625 – 626 – 627 ، بقلم  أدو نيس- العكرة ، ط 1 ،  نشر معهـــــــد الإنماء العربي ، بيروت 1986 .       
   4-  نفس المرجع  السابق ، ص 625 .
   5-  نفس المرجع  السابق ، ص 625 .
   6-  نفس المرجع السابق ، ص 626 .
  7-  فريق من الإختصاصيّين ، المجتمع والعنف ، ترجمة الأب إليـــــــاس زحلاوي، ط 2 ،  ص 241 ،  نشرالمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، بيروت  1985.

 8 –  G.Gusdorf : La vertu de force , pp 79 – 83 , ed. PUF 1957

  9-   Eric Weil : logique de la Philosophie , p 58-59 , ed. vrin , Paris 1967
  10 - خليل أحمد خليل ، سوسيولوجيا العنف ، مجلّة الفكر العربي المعاصر، عدد 27 – 28 ، ص 19 ،    بيروت 1983  .
   11 -  جورج قيسدروف : مرجع مذكور سابقا .
     12-  الموسوعة الفلسفية العربية ، ص 625 .
     13-  ورد بالمجتمع والعنف ، مرجع سابق ، ص 65 .
     14 –  نفس المرجع السابق ، ص 66 .
    15-  نفس المرجع السابق ،  ص 58  .
    16-  عن المعجم النقدي لعلم الإجتماع ، مادة عنف ، ص 395 .
    17-  نفس المرجع السابق ، ص 399 .
    18-  أنظر المجتمع والعنف ، ص 102 .
    19-  نفس المرجع السابق ، ص 98 .
    20-  نفس المرجع السابق ، ص 143 .
    21-  نفس المرجع السابق ، ص 17 – 18 .
    22-  نفس المرجع السابق ، ص 146 .
    23-  جورج قيسدورف ، مرجع مذكور سابقا .

    24-  الموسوعة الفلسفية العربية ، ص 627 .

أحدث أقدم