مركز الصدى للدراسات والإعلام: عبد الكريم المحيحش
لا تزال الحضارة الإسلامية تتعرض لهجوم تلو آخر ولعمليات استفزازية متواصلة تهم بالأساس المعتقد الديني ومنظومة القيم الدينية والمجتمعية الثابتة والمتعارف عليها، وبما أن الدين الإسلامي بوصفه العدو الأول الذي يشكل خطرا محدقا وتهديدا دائما للكيان الغربي ماديا ورمزيا فقد حاول هذا الأخير على مر العصور طمس معالمه من الوجود الفعلي لحياة الإنسان المسلم من خلال فرض قيم جديدة عليه وتغيير سلوكه ونمط عيشه ليتلاءم مع ما يسمى بالثقافة الكونية أو القيم الشمولية التي تعني أساسا القيم الغربية دون غيرها وفي نفس الوقت تعريض كل من حاول رفض الاندماج في هذه المنظومة الكونية للاستئصال أو التهجير كتعبير صريح عن عملية تطهير شاملة للوجود الإسلامي على أرض هذه الدول. وما دام عنصر الممانعة حاضرا في الواقع الإسلامي فإن هذه العلاقة الجدلية ستظل قائمة بين الطرفين الأنا والغير وستظل نظرية السيد والعبد سارية المفعول بما تقتضيه من وجود طرف حاكم مسيطر محكم قبضته على كل ثروات العالم وآخر تابع له فكرا وسلوكا يحتل موقع الهامش ويقتات على الفتات، وسيظل هذا الصراع الأزلي قائما على أشده ما دام الإسلام يمثل شوكة في حلق كل داع إلى التفسخ والانحلال وإلى تمييع القيم وإضعاف دورها في المجتمع ومحاولة سحب الدين خارج سياق النشاط الإنساني ، وتغييب دوره كفاعل أساسي في الحقل المجتمعي. ولقد تمكنت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من تذويب كل الخصوصيات الحضارية في بوتقة العولمة وفك شفرات العديد من الحضارات الإنسانية لتناسب مقاسها التنويري الحداثي إلا أن الإسلام ظل الاستثناء الوحيد في العالم الذي لم ينل منه طوفان العولمة بحيث ظل نموذجا متفردا نظرا لطبيعته التي تستعصي على التجزئة لحد التماهي أو الذوبان، ولما له من قدرة فائقة على مواكبة الحياة بما يتسم به من المرونة في التعاطي مع النوازل والمستجدات بفضل آلية الاجتهاد الشرعي المنضبط والفكر المقاصدي الممتد في الأفق الزمني دون نهاية وهي ميزات لم يحظ بها أي دين من الأديان السائدة في العالم.
وإذا كان المد الأجنبي للعولمة قد فشل في إحكام قبضته وفرض تغييره المنشود في المنطقة العربية والإسلامية من خلال المواجهة المباشرة فإنه لجأ إلى تبني استراتيجية جديدة تمثلت بالأساس في زرع بذور هذا الفكر الغربي في أذهان الكثير من بني جلدتنا الذين استقطبتهم الأجهزة الأيديولوجية لخوض هذه الحرب من خلال الدعوة إلى التحرر من ربقة الدين وقيمه ومبادئه.
وبالانتقال إلى المشهد المغربي وما عرفه من تطور على المستوى الحقوقي من قبيل إقرار حرية الرأي والتعبير كمبدأ دستوري وحق من حقوق الفرد في المجتمع فقد أصبح لهؤلاء فضاءات خاصة لاستهداف جمهور عريض من الشباب باعتباره الفئة الأكثر عرضة لتشرب هذه المبادئ والقيم الدخيلة فكرا ومنهجا وممارسة، وتبعا لذلك لا تكاد تخلوا مناسبة دينية أو تشريعية من جدال حول قضايا كانت تعد بالأمس القريب من المسلمات الدينية التي لم يكن يثار النقاش حولها إلا على سبيل التذكير بأهميتها أو بخطورتها الدينية والدنيوية إلا أننا أصبحنا نرى فيما تنشره بعض الصحف والمواقع الالكترونية شيئا من هذا التوجه نحو التمييع وتخطي الآداب والحدود الشرعية واستهداف المقدسات التي تعتبر خطا أحمر ليس فقط على مستوى دول العالم العربي والإسلامي بل في جميع مناطق العالم.
وفي هذا السياق الاستفزازي خرجت في الأيام القليلة الماضية أستاذة لمادة الفلسفة بمنشور تستهدف فيه شخص الرسول صلى الله عليه وهو أمر لا يمكن أن نقبل به كمسلمين نظرا لما يمثله شخص الرسول في حياتنا باعتباره النموذج الكامل المنزه عن كل نقص بشري، وبوصفه المثل الأعلى والقدوة الحسنة لكل فرد مسلم وبالتالي فالمساس به هو هدم للدين من أساسه وإبطال للرسالة المحمدية. وأقول بكل أسف لهذه الأستاذة ولكل من يؤيدها يتوجب عليكم قبل أن تتوجهوا بهذه الأحكام المتسرعة أن تقرؤوا بإمعان تفاصيل وأحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ضوء المعايير العلمية والأسس الموضوعية وبعيدا عن النزعة الذاتية والخلفية الإيديولوجية التي تحجب الكثير من الحقائق وأن تقرأوا أيضا ما كتبه المنصفون من علماء الغرب وفلاسفته من شهادات في حق الرسول الكريم صلى الله عليه لتدركوا حجم وحقيقة هذا الانسان الذي تتحدثون عنه. ويكفي أن نقف على نموذج واحد من هذه الشهادات الخالدة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي شهادة من العالم الأمريكي الكبير مايكل هارث الذي ألف كتابا تحت عنوان "مائة رجل من التاريخ" حيث ذهب في مؤلفه هذا إلى اعتبار الرسول صلى الله عليه أعظم شخصية في التاريخ معللا هذا الاختيار بقوله: إن اختياري محمدا ليكون أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح على المستويين الديني والدنيوي". ولقد كان بإمكان مايكل هارث أن يضع المسيح عليه السلام في المرتبة الأولى باعتباره رمز الديانة المسيحية السائدة في العالم الغربي إلا أنه مع ذلك اختار محمدا صلى الله عليه وسلم ليكون على رأس هذه القائمة وهو اختيار لم يكن اعتباطيا وإنما كان مبنيا على أسس علمية وموضوعية دقيقة ظل الرجل وفيا لها إلى أن انتهى بحثه إلى هذه النتيجة الحتمية التي تعطي الأفضلية المطلقة لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره الأكثر تأثيرا على مر التاريخ.
وقد يضيق المقام حقيقة لسرد كل ما كتب في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من طرف كبار العلماء والمفكرين والفلاسفة والأدباء والمصلحين الاجتماعيين والمؤرخين وغيرهم إلا أننا نقول بتركيز شديد إن هذه الشهادات تعكس بجلاء القيمة الحقيقية لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم والمكانة العلية التي يحظى بها بين عظماء التاريخ، وبالتالي فلا عبرة بما يقوله هؤلاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي ولا قيمة لتلك الزعقات والخرجات البهلوانية التي لا تنم إلا عن ضحالة فكرية وقصور معرفي وحقد دفين تجاه الإسلام ومقدساته ورموزه إرضاء للطرف الآخر المعادي وتنفيذا لما قد فشل في تحقيقه خلال عقود من الزمن.
Tags
مقالات