-->

أي أفق لمغرب اليوم في غياب الثقافة والمثقفين

د. التادلي الزاوي

مركز الصدى للدراسات والإعلام: د. التادلي الزاوي*

ظلت الثقافة منذ تشكلها ككيان معنوي وكرأسمال رمزي محور اهتمام كل الباحثين في تشكيل الحضارات الإنسانية وسبل تحقيق قوة الشعوب ونهضتها، إذ كلما نشطت الفعاليات المرتبطة بها، كلما كان المجتمع أقدر على الإبداع وتحقيق التراكم في الإنتاج. وعلى قدر الابتعاد عن الثقافة وإهمالها تصبح المجتمعات أكثر ميلا للعقم والجمود. غير أن التحولات الكبرى التي عرفتها الإنسانية في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين مع الانتقال إلى مجتمع المعرفة والتكنولوجيا كبديل للمجتمع الصناعي وتجاوز له  وما رافق ذلك من تغيير في منظومة القيم الكونية، ومن اختلال في موازين القوى بين الشعوب والدول، واهتزاز في كثير من اليقينيات التي ظلت شعارا تحمي به الأمم نفسها وتحتمي به .كل ذلك طرح تحديات جسيمة على الدول الضعيفة لا سبيل للعيش في العصر دون مواجهتها. وهو ما كان موضوع أسئلة متعددة ومتداخلة يمكن إجمالها في ما يأتي:
-         هل استنفدت الثقافة أدوارها ووظائفها التقليدية التي شكلت أساسا لنهضة المجتمعات ومنحها الحق في الاصطفاف في مواكب التقدم؟
-         هل يمكن للمجتمعات والدول أن تتجاهل الثقافة كفعل وتستعيض عنها بسلوكات طبيعية أو تقنية للإجابة عن الحاجات المتناسلة التي يتوقف عليها تقدم المجتمع وتطوره؟
-         أي جديد لحق وسائل وطرق تحقيق الثقافة ، مما ينسخ سابقه ويتجاوزه في الحصيلة وسبل الاستفادة منها؟
-         كيف يمكن للثقافة في الوقت الراهن أن تعود لدورها الريادي لتساهم في الرفع من مستوى الوعي ومنسوبه ويحظى معها المثقفون بالوضع الاعتباري الذي احتلوه في ما مضى؟
أسئلة كثيرة تروم هذه المقالة البحث فيها ،مع إيمان صاحبها أنها وإن كانت بديهية في أكثرها، لا يجد أي مهتم مندوحة في طرحها والسعي للإجابة عنها، لأن كل عوامل اهتزاز المجتمع واتجاهه نحو الانهيار تجد تفسيرها في غياب الفعل الثقافي الفعال والإيجابي الذي من شأنه مساعدتنا على تجنب كبواتنا وتجنب سبل التيه والضلال في مختلف مجالات حياتنا. وإذ لا ندعي القدرة على الإجابة عنها اعتبارا لكون الفعل الثقافي فعلا اجتماعيا وجماعيا وليس فرديا، فإننا نشير في البداية إلى أن الحياة السياسية في المغرب باعتبارها المعنية بترتيب خطط مسار المجتمع والمسئولة عن إدارته تعرف نوعا من التردي تظهر أهم سماته في غياب الفعل الثقافي كسبب ونتيجة.
وإذا كانت واقع الثقافة قد شكل عاملا مستفزا للبحث في الموضوع والمساهمة في طرح أهم الأسئلة ذات الصلة، فإننا نتوسم في ما نقوم به أن يحرك بركة راكدة تجمعت فيها سلبية كثير من المثقفين استمرأوا الصمت والهروب، تاركين الجمل بما حمل، ليؤدوا مرغمين نفس فاتورة الجهل التي يؤديها المجتمع. لكن متحملين مسئولية وخز الضمير وغياب التقدير.
ومع إيماننا بأن الثقافة تستطيع إيجاد تفسير للتناقضات الاجتماعية من خلال غوصها في كيان المجتمع وربط الإدراك بالفعل والتطبيق، فإنه ينبغي أن يكون المثقف كحامل للمعرفة قادرا على صياغة موقف وبلورته. وبدون ذلك لا يمكن أن يكون أهلا للتسمية إلا إذا ترجم ما يؤمن به إلى فعل في صالح وطنه وأمته ومجتمعه والمستقبل المنظور.[‌أ]
تمهيد
من فرط تداول لفظة الثقافة، يعتقد البعض أنها من المفاهيم الواضحة التي لا يكتنفها لبس أو غموض، والحقيقة غير ذلك. إنها أكثر التباسا في الإدراك والاستعمال، بفعل ما خضع له المفهوم من تطور على مستوى الدلالة وما احتواه من معان عبر التاريخ. مما يستوجب المزيد من إضاءته ورفع كل غموض عنه، والفصل بين مدلول الثقافة وبين الصور الذهنية التي يمتلكها الكثيرون عن المفهوم، والتي يستندون إليها في توصيف ووسم البعض بالمثقفين أو تصنيفهم مع غيرهم في نفس الخانة لتضيع الحقيقة، وتصبح من ثم الأحكام التي تستهدف المثقفين غير ذات أساس معرفي في مجال أحق بالمعرفة من غيره.
لكل هذه المعطيات نرى ضرورة تحديد مفهوم الثقافة ومن ثم الحديث عن حدودها ووظائفها وأدوارها في المجتمع، بغية الكشف عن سبل وطرق تفعيلها للنهوض بالمجتمع وتبويئه المكانة اللائقة به. فأي معنى يضمره مفهوم الثقافة، وما هي أهم خصائصه وسماته؟ وكيف يمكنه أن يلعب ما خلق له من أدوار؟
مفهوم الثقافة
من أكثر المفاهيم تعقيدا وصعوبة في التحديد، والسبب في ذلك التباسه بمفاهيم أخرى ممهدة له أو من امتداداته، أو لأنه ليس مفهوما جامدا أو منعزلا، بل يخضع لتأثيرات البيئة والمحيط، مثلما يخضع للتطور الذي يعرفه الكائن البشري في نظام حياته وعيشه، وفي مختلف علاقاته وسعيه للتمدن والرقي. لذلك نعتقد أن مفهوم الثقافة بما ينطوي عليه من معان ودلالات تغير عبر التاريخ بتغير وظائف حامليه في الحياة، وتغيرت معه أوضاعهم الاعتبارية وممارساتهم في أوساط المجتمعات التي احتضنتهم. ففي الدلالة المعجمية العربية كانت الثقافة تفيد الذكاء والنباهة والفطنة والبراعة وسرعة التعلم وتقويم الاعوجاج، مثل ما ورد عند ابن فارس في معجم مقاييس اللغة أو عند بن منظور في لسان العرب أو تاج العروس لمرتضى الزبيدي، مما يعني أنها تتوقف على وجود مؤهلات وملكات وقدرات لا تتوفر لكل الناس، ومن شأن ممتلكيها أن يفيدوا بها غيرهم. غير أن هذا المعنى سيظل مؤسسا للثقافة دون أن يحيط بها كليا. فعوامل التطور الإنساني ستفرز دلالات أوسع وأعمق. إذ ستتدخل الوظيفة والأدوار في إضفاء الجديد على معنى الثقافة. وهكذا نجد في المستوى الاصطلاحي أن هانز جورج جادامير ذهب إلى أن أصل مفهوم الثقافة يعود إلى القرون الوسطى، حيث ارتبط بالتصوف، مما يوحي بأن نشأته كانت دينية أساسا اعتبارا لما كان المثقفون يقومون به من أدوار توجيهية، ليكتسي في القرن التاسع عشر بعدا أوسع وأعمق. وفي هذا يميز الكثير من المهتمين في الفكر الغربي (الألماني أساسا) بين لفظتي Bilding و kultur حيث اللفظة الأولى ترجمة لكلمة ثقافة وتعني حسب فلهلم فون همبولدت " شيئا ساميا وعقليا إلى حد بعيد؛ أي تنظيم العقل الذي يجري بانسجام داخل الحساسية والشخصية، انطلاقا من المعرفة والشعور، بالمسعى الثقافي والأخلاقي الكلي". وهو معنى مخالف للفظة kultur التي تعني تطوير مدارك المرء ومواهبه [‌ب].
وفي تعريف للثقافة يرى جادامير أنها الوعي النظري الذي يمتلكه الفرد فيصبح بموجبه قادرا على التعامل مع الأشياء بشكل غير مباشر، لذلك تعتبر الثقافة خاصية إنسانية تتشكل انطلاقا من علاقة الإنسان بالحاضر، بما هي علاقة قائمة على الصراع بفعل طبيعة الإنسان وتفكيره[‌ج].
ولئن كانت الثقافة هي منتوج الفكر ومادة الوعي والإدراك، تنشط العقل وتوسع مجال فهمه، فقد أولى جادامير في تشكلها أهمية كبرى للذاكرة، إذ اعتبرها أساس حفظ ما تشكل لدى الإنسان تاريخيا، لتصبح نفسها جزءا من تاريخه وثقافته. مثلما أعطى أهمية للذوق أيضا، معتبرا إياه طرازا من المعرفة وطرازا من الوجود. وهو عنده يتضمن الثقافة ويشكل وظيفة من وظائفها الجمالية والتاريخية.[‌د]
وبغض النظر عن تاريخية المفهوم ومستوى وجوده في مختلف الممارسات الفكرية الصادرة عن الإنسان ككائن واع، ويملك القدرة على التفكير، ويراكم تجارب وخبرات، ويسعى إلى تفسير الواقع ومختلف التفاعلات التي تحصل فيه،اعتمادا على فهمه ورؤيته، فإن لفظة ثقافة  اعتبرت في التفسير الفلسفي مكونا لشخصية الإنسان الفرد وشخصية المجتمع، باعتبارهما صانعين لها ومن نواتجها. إذ تشتمل على الأفكار واللغة وأنماط السلوك والعادات والتقاليد، وعلى مختلف أشكال التعبير والخبرات والتجارب.
ولعل ذلك ما حذا بمحمود أمين العالم إلى اعتبارها ذات طبيعة إشكالية، لأنها تختلف باختلاف المواقف والفلسفات، حيث يرى أنها " لا تقتصر على التعابير والمنجزات والمفاهيم والقيم الأدبية والفنية والعلمية، وإنما تمتد لتشمل كل المضامين الفكرية والعلمية والوجدانية والقيمية في مختلف مجالات، وظواهر السلوك الاجتماعي. ولهذا فالثقافة ليست هذه الفكرة أو تلك، هذا السلوك أو ذلك، بل هي بنية شاملة متعضونة ومتسقة داخليا، بشكل أو بآخر، دون أن يمنع هذا وجود تناقضات وثغرات وتقريعات في الإطار البنيوي العام.  وهي بهذا المعنى جزء من البنية الإيديولوجية الاجتماعية التي هي أكثر شمولا وتجريدا "[‌ه] .
أما المعجم الفرنسي لاروس الصغير petit larousse فقد جاء فيه أن الثقافة هي مجموع القيم والمعايير والسلوكات الخاصة بمجموعة اجتماعية تبرز الفجوة والاختلاف عن الثقافة المهيمنة أو تتشظى مع ثقافة أخرى، أو هي مجموع الظواهر المادية والإيديولوجية التي تميز مجموعة إثنية أو أمة أو حضارة في مقابل مجموعة أو أمة أخرى[‌و].
ويرى محمد أحمد خلف الله في تعريف مجمل للثقافة أنها " هي مجموع القيم التي يمارس بها المجتمع حياته، سواء كانت دينية أو اقتصادية أو ما شاكل ذلك"[‌ز]
نخلص مما سبق من التعاريف إلى أن الثقافة فعلا مفهوم شاسع جدا وقابل للمزيد من الاتساع، ما دام الإنسان ينتج فكرا وقيما، وما دام يبدع لغة وأشكالا تعبيرية جديدة،بغاية فهم عالمه ونسج علاقات مختلفة معه، يستطيع بها أن يحدد وجوده ومساره وتوجهه. لذلك فالثقافة تشمل كل ما يصدر عن الإنسان في سياق علاقاته الاجتماعية من إنتاج فكري يتميز به عن باقي الكائنات الحية التي لا تملك العقل ولا تنتج القيم الضابطة له.
مكونات الثقافة
إذا كانت معظم الدراسات التي اهتمت بالثقافة تقرنها في الغالب بالإنتاج اللامادي الصادر عن الإنسان، فإن هذا الإنتاج ليس محصورا على الإطلاق، بل يظل مفتوحا على الجديد ما دامت حاجات الإنسان متجددة ، وما دامت علاقته بالوجود والناس، يحكمها وعيه وقدرته على مراكمة المعرفة في أبعادها الكمية والنوعية. لذلك فالثقافة تتميز بالخصوبة وقابلية إفراز مكونات جديدة تنضاف إلى ما اشتملت عليه سابقا. وبالنظر في مختلف التعريفات التي عرضناها حول الثقافة يمكن أن نستخلص أهم مكوناتها فيما يلي:
-         مختلف التعابير الفنية والتعابير الجمالية المادية والرمزية، ويدخل في هذا الموسيقى والرسم والمسرح والسينما والتشكيل والشعر..
-         المعتقدات على اختلافها، الدينية والاجتماعية وغيرها
-         الفلسفة والفكر والأسطورة؛
-         العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية والمقدسات
-         الممارسات الاقتصادية والقانونية بما هي إفراز لوعي وتجل لرؤية مؤطرة؛
-         اللغة والآداب
-         التاريخ والعلوم ومختلف الإنتاجات المصاحبة لهما؛
-         قواعد السلوك العامة والخاصة؛
-         الذوق والمهارات الفنية؛
-         التجارب والأخلاق واللباس والطعام؛
...
ولعل تشكل هذه العناصر واندراجها ضمن مكونات الثقافة لم يتم في سياق زمني واحد، بل  يعتبر نتيجة لتطور الانسان واحتكاكه، وما راكمه من تجارب وإبداعات، مما يمكن اعتباره حصيلة تفاعل اجتماعي وبيئي وإفرازا لنمط الوعي ومستواه. وبناء على ذلك فكل الأنشطة التي ترتبط بهذه المكونات السالف ذكرها إبداعا أو ممارسة تدخل في خانة الثقافة، خاصة إذا كان وراءها معرفة ويسندها وعي يتجاوز العلاقة المباشرة بالأشياء إلى علاقة فهم وتدبر وتفسير.
أهمية ووظائف الثقافة
تختلف أهمية الثقافة باختلاف المستوى الحضاري للمجتمع، إذ يفرض كل تطور حضاري منطقه على الثقافة، والحضارة رهينة النمط الاقتصادي السائد. لذلك نجد تباينا في الاهتمام بالثقافة بين المجتمع الزراعي والمجتمع الصناعي أو ما بعد الصناعي، ومن ثم تباينا فيما تنهض به من وظائف، وفي الوضع الاعتباري للمثقف. ومهما اختلف أهميتها ووظائفها فقد ظلت على الدوام وعاء لنقل التراث من جيل لجيل، بما يتضمنه هذا التراث من قيم ومعتقدات وأنماط سلوكية واتجاهات مشتركة، وما يستتبع هذا النقل من تبسيط وتسهيل للاستيعاب، وفي هذا كانت وظيفتها المحافظة على استمرار المجتمع وتماسكه وخلق أجواء التكيف والتأقلم معه، مما أتاح لها إمكانية خلق جسور بين المجتمعات عبر التاريخ.
وإذ تعتبر هذه الوظائف خصائص وسمات يحقق بها الإنسان وجوده النوعي، فإنها تنطوي على معان وقيم حملتها عبر العصور، وجسدتها في ما لعبته أدوار وفي ما ثبتته من قيم ومواقف وسلوكات، مما يعطي مشروعية للحديث عن ضرورة حضورها الدائم للنهوض بالمجتمع ورسم آفاقه وخطوط سيره. ومن ذلك ما يلي:
-         التوجيه والإرشاد والتوعية، حيث مؤهلات المثقف المعرفية والعلمية تخول له أن يكون مرجعا لغيره في اختيار المسالك المفيدة في الحياة؛
-         التبصير بإيجابيات الحياة ومباهجها، إذ المثقف بحكم عمق تفكيره وذوقه المدرب وإحساسه الراقي هو المؤهل لفتح أعين غيره من الناس على الحياة ليعيشوها كما ينبغي أن تعاش؛
-         حفظ التراث وصيانته من كل ما يعبث به أو يضيعه. فالثقافة تشكل ذاكرة المجتمع وحاضنة قيمه وما يملك من معارف وإنتاجات فنية أو علمية من شأنها إفادة الدارس والمهتم إذا كان في حاجة إليها؛
-         حاضنة تفاعلات المجتمع وقدرات أفراده ومهاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم، مما يجعل الثقافة تعكس كل مؤهلات المجتمع ومطامحه وما يريد التأسيس له في المستقبل؛
-         تعكس ما يجري في المجتمع، فتقوم بحفظ المجتمع مما يهدد تماسكه أو يخلق فجوات بين مكوناته اعتمادا على ما تبثه من قيم العمل والديمقراطية والتسامح والانفتاح والتعايش، وهو ما يجعلها صمام أمان ودرع واق من الانحراف؛
-         الثقافة لحمة المجتمع وسداه، إذ من خلالها يكتسب أفراده القدرة على التحاور وبها يضمنون الحق في الاختلاف في ما بينهم. وهذا ما يخلق خصوبة في الرأي ويفتح الباب للتجديد؛
-         هي الإطار العام للسلوك الاجتماعي، بما يفتح للأفراد من هوامش للتفاهم والتواصل، ومن حرية في الإبداع والمشاركة في الحياة الاجتماعية؛
-         الثقافة تثري الذهن بالمعلومات والمعارف والخبرات والتجارب؛
-         هي مصدر التنمية الشخصية الفردية والاجتماعية؛
-         تنظم حياة الناس وتساعدهم على إشباع حاجاتهم المختلفة؛
-         تؤهلهم لمواجهة ما يعترضهم من صعوبات وتحديات للعيش الآمن
-         تمدهم بكل ما يساعدهم  على حل مشاكلهم في الحياة؛
-         تفسر ما يصادفونه من مواقف وسلوكات
مفهوم المثقف
من الطبيعي أن يحصل الاختلاف حول مفهوم المثقف بين مختلف المنظرين والمهتمين، مثلما حصل حول الثقافة، بل الاختلاف حول المثقف كان أقوى ، حيث لا يكفي التحصيل العلمي والمعرفي في مجال تخصصي ليفرز مثقفا، مهما كان متفوقا فيه . وقد ذهب المرحوم محمد جسوس كأبرز السوسيولوجيين المغاربة إلى أن مفهوم المثقف في العالم العربي مفهوم جديد ، وإن كنا نجد بعض الممارسات التي كان يقوم بها الوعاظ والفقهاء وحملة الفكر تدخل في باب الممارسات الثقافية. فالشروط التاريخية التي أفرزت طائفة من المشتغلين بالفكر والمعرفة في المجتمع الأروبي لم توجد عندنا، إذ إن مفهوم الأنتلجنسيا أفرزته المجتمعات السلافية التي كانت تعيش مشروعا مجتمعيا عاما، مما جعلها تعبئ الجماهير حوله. وبذلك كان المثقفون يلعبون أدوارا في مستوى التوعية والتنظيم السياسي ، ناشرين مبادئ الثورة والعقلانية ، مثل ما فعل دستوفسكي. وهو الأمر الذي لم ينضج في مجتمعاتنا العربية في غياب فئة من المثقفين تملك رأيا عاما توجه نحوه الجماهير، وتنشر من خلاله أفكارها.[‌ح] وتحديدا لسمات المثقف يذهب محمد جسوس إلى أنه صاحب نظرة شمولية ورؤية نقدية ، ومن ثم صاحب سلعة يعمل على ترويجها بعيدا عن الضغوط المباشرة للطبقة الحاكمة أو السائدة ، أما مضامين دوره الاجتماعي فتتحدد حسب ظروف الزمان والمكان[‌ط]. وغير بعيد عن هذا الرأي ما ذهب إليه المفكر الفلسطيني ناجي علوش حين ربط لفظة الثقافة في ظهورها بمن سموا بالأنتلجنسيا، وهو مصطلح تكون في أوربا ، وفي روسيا أساسا، بعد التحرر من سلطة الإقطاع والكنيسة، وكان يعني فئة من الناس تميزوا عن غيرهم بامتلاك قدر من الثقافة ، يؤهلهم لقدر من النظرة الشمولية وقدر من الالتزام السياسي والفكري، اعتبارا لمهمة إصلاح المجتمع التي كانوا يشتغلون من أجلها [‌ي].
وإبرازا لمفهوم المثقف و ما عليه أن ينهض به من أدوار، نلتمس ذلك من رأي السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو الذي اعتبر الثقافة رأسمالا يتشكل لدى المثقف من العادات والتقاليد والأعراف والحكايات والأساطير والرموز الدينية والفنون، ومختلف المؤهلات الفكرية التي ينتجها المحيط الأسري والنظام التربوي. وهي التي تتحكم في الفرد وتوجهه. وبناء عليها تتحدد قيمته في المجتمع. لذلك يعتبر المثقف ضمير المجتمع والمتكلم باسمه. ومن ثم يحمله بورديو مسئولية التغيير والنهوض بالمجتمع. [‌ك]
وقد أولت الماركسية أهمية كبرى للمثقفين حين اعتبرتهم هم الذين يصنعون بتنظيراتهم التوازن حين ينتجون الفكر، ويصوغون مختلف الرموز والأنساق داخل التبادل الاجتماعي العام المرتبط بالتقسيم الاجتماعي العام في المجتمع.
وبالتأمل في مختلف وجهات النظر التي عرضناها حول المثقف وما يتحتم عليه امتلاكه من مؤهلات وقدرات ترتبط بالرأسمال المتحدث عنه والمكونات التي يتشكل منها، وبعيدا عن الجدالات النظرية التي راكمها الفكر المعاصر حول هوية المثقف وانتمائه وموقعه من الصراع، ومن تناقضات المجتمع ، تظل أسئلة وظيفته وأدواره في المجتمع  قائمة ، مثلما تظل مسألة المواقف التي ينبغي عليه اتخاذها تجاه ما يجري أمامه من أحداث ووقائع أمرا محددا لشخصيته . ذلك أنه بحكم ما يضمر من وعي متميز، ومن قدرة على فهم وتحليل طبيعة الصراعات التي تجري في مجتمعه، مطالب بالاصطفاف إلى جانب جهة أو طبقة معينة في المجتمع. وهو ما يجعله يكرس المحافظة أو يدعو إلى التغيير.
واعتبارا لما يملكه المثقف من أفكار وتصورات، وبحكم قدرته على التأثير في الناس بفضل مؤهلاته في اللغة والخطابات المبنية عليها، بحكم ذلك كله هو مطالب بإيقاظ وعي الناس، وتعميقه تجاه قضاياهم، ورسم سبل البحث عن حلول لها. وتأسيسا على ذلك فهو معني بالرفع من منسوب الوعي عبر المعرفة بالوجود وشروطه، وإدراك عوامل المحافظة عليه وصيانته من كل إحساس يمنع من العيش في وضع آمن يتذوق فيه المرء معنى الوجود.
وإذا كانت هذه بعض المهام التي يقتضيها المعنى الوجودي للمثقف، ليبشر بالتصورات المستقبلية التي استطاع بناءها ويرسم حدودها كبديل للواقع القائم، اعتبارا للسمات التي تميزه مما سلف ذكره، فهل ما يقوم به المثقف في مجتمعنا المغربي اليوم تجسد انتظارات الجمهور ممن ينظرون له نظرة تقدير واعتبار ؟ وهل يملك لغة التواصل الإيجابي والفعال مع الجمهور؟ وهل هو مصطف إلى جانب الجماهير، ويجسد المسافة المطلوبة من الطبقة السائدة، ويملك الحرية في اختياراته؟ وهل استطاع أن يوظف رأسماله الرمزي في فهم معاناة الجماهير الناتجة عن التناقضات القائمة في المجتمع؟ أو بعبارة أكثر تدقيقا أي موقع يوجد فيه المثقف اليوم في ظل تجاذبات سياسية واجتماعية؟ وأي موقف له من مختلف الأحداث والمؤثرات التي تخيم على المجتمع وتؤشر على مساره الصعب غدا؟
وضعية الثقافة والمثقفين في المغرب أسباب ومظاهر
من الصعوبة بمكان الحديث عن مشروع ثقافي استقطب المثقفين في المغرب ومنحوا بموجبه الوضع الاعتباري الذي يستحقونه، لإنهم لم يشكلوا جبهة ولم ينتجوا تصورا يوحدهم وتستنفر الطاقات من أجله. وإن كانوا قد لعبوا أدوارا طلائعية في بعض المراحل التاريخية في العصر الحديث، ولا سيما في مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حين كانت الجامعة المغربية مشتلا خصبا لصناعة النخب ، وحين كانت المنظمات الطلابية والنقابات على اختلافها أداة واعدة بالتغيير. غير أن كثيرا من الأحداث والوقائع التي تفاعلوا معها، وطنية كانت أو قومية أو عالمية ،خلقت ردود فعل قوية من الدولة لتبحث لنفسها عن إستراتيجية لمواجهة المد الثقافي التنويري ولتحد من جموح المثقفين.
وإذا كان اتحاد كتاب المغرب وكثير من الجمعيات الثقافية قد قامت بأدوار هامة في تنوير الجمهور، وعبأت كثيرا من الطاقات، خالقة أفقا ثقافيا رحبا، فإن ذلك سرعان ما سيخبو بفعل عوامل موضوعية وأخرى ذاتية ليصبح المثقف رقما غير مهم في معادلة التغيير. وقد بدأت الدولة بالتنقيص من أهمية الثقافة والمثقفين عبر سلسلة من التدابير والإجراءات التي أثمرت وضعا سلبيا فيما بعد. وقد ابتدأت ذلك بالتضييق على العمل الثقافي حين قيدت الأنشطة الجمعوية الممارسة بدور الشباب، مما حرم الكثيرين من الاستفادة منها، ومنعت تنمية الثقافة وانتشارها، وكانت تنظر دائما لكل نشاط ثقافي جاد وفعال بعين غير راضية وإحساس غير مطمئن. وقد تلا ذلك كرد فعل، إهمال ملحوظ لمختلف المؤسسات التي عرفت بكونها فضاء للتأطير والتنمية الثقافية، كدور الثقافة والمتاحف والمسارح التي طال الهدم الكثير منها. إلى جانب خلق بدائل ثقافية قوامها التسطيح وسيادة التفكير السلبي في الدين والتراث، وانتشار مظاهر فولكلورية تصبح معها الثقافة مادة سياحية مؤسسة على الفرجة. وقد تجلى ذلك في كثرة المواسم الفلاحية والتظاهرات الدينية المستندة إلى الأولياء وما تضمره من تفكير أسطوري أو خرافي.
ولئن حرصت الجهات المعنية على خلق بدائل ثقافية من خلال هذه التدابير، فإنها عززتها بخلق جمعيات ومنتديات ثقافية رسمية، مثل ما عرف بجمعيات السهول والجبال والوديان، حيث كان يرصد لها دعم مادي سال له لعاب كثير من المثقفين ليختاروا الانخراط فيه عبر تظاهرات ثقافية رسمية تحاول أن تغطي كل مجالات الحياة الإنسانية، لكن بنظرة شكلية صرفة تصبح فيها الثقافة أداة لتكريس واقع الاستغلال والمحافظة ، ومن ثم محاربة وإضعاف الثقافة الجادة والفعالة.
إن ما أصاب الفعل الثقافي في استراتيجية التدمير هاته لم يكن ليؤتي أكله لولا الاستمرار في خلق وضع شاذ للثقافة، إذ طال الإضعاف كثيرا من المنابر الثقافية والإعلامية التي عرفت نوعا من الشلل ، و لم تعد قادرة على الممارسة في غياب الدعم المادي لتغطية تكاليف أنشطتها ، كما طال المكتبات التي لم تعد تستقطب القراء بفعل ضعف القدرة الشرائية وما رافقها من اختلال بيداغوجي في الفعل القرائي ،نتيجة الحس النفعي الذي أصبح مهيمنا عليه .حدث هذا في ظل غياب إطار محتضن للمثقفين بعيدا عن الصراعات العقائدية والإيديولوجية التي ظلت على الدوام مذكية للفعل الثقافي ومندرة بتشتت المثقفين وتشرذمهم.
ولقد كانت لذلك نتائج وخيمة تفاعل فيها   الذاتي والموضوعي ، بحيث لم تعد الثقافة تحظى بالتقدير الذي حظيت به من قبل . فعلاوة على ما سبقت الإشارة إليه من مسلكيات اعتمدتها الدولة للنيل من الثقافة والمثقفين الذين لم تكن تنظر إليهم بعين الرضا لأنهم ضد المحافظة، ويسعون دائما إلى التنوير والتغيير. فقد وضعت قيودا للمعارض والندوات ومختلف التظاهرات، بالاستناد إلى نصوص قانونية تقيد الحرية، أو بخلق نصوص تشرعن هذا التقييد، كما أنها أصمت آذانها عن كل صيحة تروم الرفع من رعاية الثقافة، من خلال إنشاء مؤسسات عليا لهذا الغرض، مثل المجلس الأعلى للثقافة، أو من خلال تقليص ميزانية وزارة الثقافة إلى الحد الذي لن يهيئ لها القيام بالفعل الثقافي المطلوب . وبذلك أصبحت الثقافة شبه مهمشة، أو تشكل نوعا من الترف تقوم بها الخاصة لتشبع رغبات زائدة، أو عبارة عن ممارسات لها أهميتها، لكنها تظل معزولة وقيمتها محدودة.
أما نتيجة هذا كله فتتمثل في الاختلال الذي ستعرفه الوضعية الاعتبارية للمثقف والتي تتجلى فيما يلي:
-         ضعف الجسور بينه وبين الجمهور
-         عجزه عن القيام بوظيفته وأدواره كمثقف
-         غياب الجاذبية في علاقة الناس بالثقافة
-         تراجع الثقافة عن دورها التأطيري والتوجيهي لصالح ثقافة الفرجة والمتعة
-         النظرة إلى المثقف كإنسان حالم يفكر ويمارس خارج المعروف والمتداول
-         النظرة إلى الثقافة كفعل كمالي لا يستجيب لحاجات الجمهور المباشرة..
أمام هذه الوضعية المخالفة للطبيعة الوجودية للثقافة والمثقفين، وفي سياق تاريخي أهم سماته عجز المثقف عن توظيف رأسماله الرمزي في تثبيت قيم، وتنوير عقول، وبلورة مشروع يعكس من خلاله حلمه بواقع بناه من خلال فهمه للواقع والعناصر المتحكمة فيه، يحق لنا أن نسأل أي دور بقي للمثقف؟ ومن يمكنه أن ينوب عنه في النهوض بمهمته؟ وما هو مآل المجتمع في غيابه؟ وكيف يمكن عقد تصالح بين الثقافة والمثقف من جهة وبينه وبين المجتمع من جهة أخرى؟ فمن شأن الإجابة عن هذه الأسئلة جميعها أن يحدد مسار المجتمع الذي ننشد ويزيح الهم عن مجتمع أصبح فريسة يسهل الإمساك بها وافتراسها.
إن الهجوم الشرس الذي طال الإيديولوجيا، باعتبارها تصورا نظريا يؤطر الفعل السياسي ويحدد توجهات صاحبه، بادعاء متزعميه تحرير المجتمع من النماذج والقوالب الجاهزة التي من شأن الركون إليها المس بهويتنا، ما كان له أن يحصل لولا انهيار كثير من الأنظمة الاشتراكية التي كانت بعض الأحزاب والمنظمات تسير في ركابها . وإذ يبدو جليا أن الحرب لم تكن إلا على إيديولوجيا معينة، وهي التي كانت تستند إلى رؤية وفلسفة معينة في التغيير كثيرا ما استمدت رواءها من النظرية الاشتراكية باختلاف تفريعاتها، فإن مناهضي الإيديولوجية محكومون في ممارستهم بتصور ورؤية للعالم، بغض النظر عن الأسس والمرجعيات ليس لهم إلا أن يسقطوا في الإيديولوجيا ،إلا أنها غير واعية أو مغلفة بأغلفة مصلحية بعيدة المدى.
المثقف مهما اختلف حول هويته النظرية، لا يمكن إلا أن يكون صاحب مشروع أو رؤية للعالم، أنتجها في تفاعل اجتماعي. ويستند إليها في رسم ملامح واقع محلوم به. وفي غياب هذه الرؤية الجماعية يصعب أن نتحدث عن الثقافة، كما يصعب الحديث عن ممارسة ثقافية اجتماعية تحرك دفة المجتمع وتسير به نحو التقدم والتطور.
وإن المعرفة العلمية بالمناهج والنظريات، والفلسفات المختلفة التي أنتجها الفكر الإنساني، لا تستطيع لوحدها إنتاج تصور ثقافي إذا لم تنخرط فيه الجماعة، بل إن ذلك – في تقديرنا- تكريس للشتات ودعم لغياب وحدة الرؤيا. لذلك نجد المثقفين اليوم في غياب المؤسسات والمنظمات والجمعيات أو في ضعفها عاجزين عن إنتاج رؤية مشتركة لما ينبغي أن يكون، أو هم أدوات هادمة لهذه الرؤية من خلال الحرب على الإيديولوجيا، بل وعلى العلوم الإنسانية، كلما كان الحديث عن الرفع من المستوى العلمي للأداء الجامعي، مثلما تجرأ وزير التعليم العالي يوما حين صرح بلا أهميتها ولا أهمية الآداب والفنون دون إدراك لخطورة ذلك على البناء السليم للإنسان والمجتمع.
فمختلف الدراسات التي بحثت في مفهوم المثقف ربطته بالفعل الاجتماعي، أي بالتأطير وإيقاظ الوعي ونشره لتحقيق التغيير المنشود. أما التعلم فمهما بلغ التحصيل فيه، فإنه لن يعطي مثقفا، بل ينتج تقنيين بارعين ومتفوقين في دائرة اختصاصهم، ناجحين ما داموا يمارسون وظائفهم. يؤكد هذا ما نلاحظه من أن الكثيرين منهم يتوقفون عن التأثير بمجرد إحالتهم على المعاش. على خلاف المثقفين المهووسين بقضايا مجتمعهم، والخائضين باستمرار فيها، عبر الدراسة والتحليل والنقد، فإنهم يظلون كذلك ما دام وعيهم قائما ومجتمعهم متحركا ومحتضنا للتناقضات.
المثقف وغياب الوظيفة الأساس
إن التميز الذي يكتسيه المثقف في علاقته بغيره في المجتمع " بكونه ينتج الفكر ويساهم في تنوير الناس بقضاياهم الحيوية والكشف عن أشياء التراث الواقع والانخراط في حركة صنع المستقبل الجديد"[‌ل]، إذا انحرف عنه أو توقف عن النهوض بالمهام المنوطة به، يفسح المجال لغيره للتطفل على المهمة من خلال ممارستها في شروط غير سليمة، فيقزمها أو يحرفها بما يكرس الواقع القائم، أو إنتاج واقع أفظع. ظهر هذا جليا في الممارسة السياسية في المغرب، حيث ابتعاد المثقف عنها جعل غيره يقوم بدور توعية الناس بشؤونهم ورسم ملامح مستقبلهم ، معتبرا أن السياسة فضاء منعزل لا دخل للثقافة فيه. والحال أن الثقافة بالاستناد إلى مختلف التعاريف التي سقناها، والقاضية بإيقاظ الوعي، تظل وحدها صمام الأمان من زيغ المجتمع أو انحرافه. وهي المهمة التي أنيطت بالمثقفين على مر العصور، ككائنات تحمل هم المجتمع وتعمل على تنويره وفتح أعين المواطنين على سبل النجاح في الحياة.
وبالنظر إلى تخلف كثير من المثقفين المغاربة عن هذه المهمة أو تقاعس بعضهم عنها، خصوصا مع التغيرات التي عرفها المغرب في نهاية العشرية الأخيرة من القرن العشرين، أو صمتهم عما جرى في ظل حكومة التناوب التي علقوا عليها آمالا كثيرة، في نوع من الفهم السيء للدور، إذ كان عليهم أن يحافظوا على المسافة المطلوبة مع السلطة لممارسة النقد تجاهها وليس للتماهي معها ثم اليأس حين عجزها عن تحقيق التغيير المنشود. كان عليهم أن يضعوا تصورات تشكل ضمان بناء سليم للمجتمع. فقد وجد المجتمع نفسه بدون بوصلة، ووجد محترفو السياسة الطريق معبدا للسير بالمجتمع وفق ما يريدون. إن مهام السياسي مهما بلغت تظل مرتبطة بالظروف ومحكومة بالمصالح، لأنها مهام لا تمليها إلا الرغبة في امتلاك السلطة والمحافظة عليها. مهام تتعلق بكيفية قيادة المجتمع نحو صناعة القرار الذي يخدم أهدافها. وقيادة المجتمع تقتضي معرفة بالقواعد الضرورية لبنائه وأسس تشكلها، وبقواعد السلوك التي تضبط علاقاته بحاجاته وتطلعاته، بماضيه وسبل استثمار إمكانياته، بواقعه وآفاق انتظارته. وهي مهمة لا يقوى عليها إلا من يملك معرفة وقدرة على استثمارها وتوظيفها في النهوض بشؤون المجتمع. بعيدا عن المصالح الضيقة التي لا تبالي بمطامح مختلف فئات المجتمع وطبقاته. وإن غياب هذه الأمور في تدبير المجتمع هو الذي دفع الكثير من السياسيين إلى الحديث عن البراجماتية كشعار ومناهضة الإيديولوجيا كبنية تحتية للفكر والممارسة. وفي ظل هذا أصبحنا نلاحظ المواقف التي لا تسندها رؤى عميقة لا ترتكز على أسس من التحليل والفهم، بل إن الكثير منها أصبح مثل الجوارب التي يتخلص منها صاحبها في حالة العرق أو النوم.
إنها أوضاع أليمة لا يملك المرء إزاءها إلا الإشفاق على حال المثقفين الذين اختاروا الانسحاب من مسرح الأحداث والفعل الإيجابي في المجتمع، أو الذين استمرأوا ذلك النقد السلبي الذي لا يزيد الوضع إلا تأزما، لتصبح حركية المجتمع في اتجاه المزيد من الهشاشة والإندار بالانهيار. اختيارات هؤلاء المثقفين تدميرية للذات مثلما المجتمع، لأنها قبلت الواقع كما هو ورضخت له، ولم تقو على مقاومته ورسم الحلول البديلة لتجاوزه، وباتت متفرجة على آلامها وآلام المجتمع. ولأنها من فرط تشرذمها لم تعد تدرك من الواقع إلا النتائج، وكل تحليل حاولته في غياب الاجتهاد وإنتاج الأدوات العلمية الكفيلة بإبراز أسباب الأزمة، لم يكن ليفضي إلا إلى تفسيرات بعيدة عن الواقع وشروطه، فهل بلغ الأمر هذا المستوى من العقم الفكري لينزوي المثقفون ويتركون المجتمع تتربص به أيادي العابثين .
في ثمانينيات القرن الماضي كانت هناك إرهاصات لخلق جبهة ثقافية قومية  تبعا للحاجات الملحة لها ، لكن لم يكتب لها النجاح بسبب ما ووجهت به من سخاء في الإنفاق من طرف بعض الحكام على منابر ثقافية استهوت الكثيرين فانخرطوا فيها وحققوا من ورائها كسبا ماديا ، لكن تبين في ما بعد أنها خلقت لضرب كل ثقافة متنورة وجادة وتروم التغيير، وبسبب دوغمائية بعض المثقفين وركونهم المطلق إلى  إيديولوجيات أنتجت في شروط مجتمعية مخالفة للمجتمع العربي . أما اليوم ، ومع ما يجري في كثير من دول العالم من تغيير في نظم القيم، ومن تبدل في السياسات والقناعات والتصورات، ومن تسابق محموم نحو الريادة ،ومع الاختلال الذي أصاب موازين القوى ، بحيث لم تعد قوة الأمم في ما تملكه من ثروات طبيعية(البترول أساسا) ،بل أصبحت المعرفة هي أساس قوة المجتمع، فيحق لنا أن نطرح السؤال من جديد أين هو المثقف؟ أين الذي يمكنه أن يرسم خط السير بعد ضياع البوصلة؟ ومتى يهب المثقفون من نومهم لإنتاج خطاب جديد يحتفون فيه بالعقل ويعملون على تحصينه من جائحة الجهل التي قد لا تبقي ولا تذر؟
المرحلة الراهنة  تحتاج ليس فقط إلى اشتغال المختبرات العلمية التي تنتج الدواء للأمراض،  وتسعف في خوض غمار التكنولوجيا والتقدم العلمي ،ولكن تحتاج أيضا إلى المختبرات التي تنتج الفكر الذي يحمي الإنسان من نفسه أولا، ويمده بالمعرفة التي تفيده في وعي ذاته والعالم حوله، تحتاج إلى صناعة سبل التحدي والإسعاف في إدراك مباهج الحياة والحرص على الاستفادة منها وصيانتها. وتلك أمور لا تستقيم في ظل الفرقة والتفكير المادي الصرف ، إذ الثقافة لا ينتجها الفرد وحده ، ولكن تنتجها الجماعة في سياق زمني ومكاني واجتماعي ونفسي .وهي وقود الحياة السليمة وهواؤها الذي تتنسمه لضمان صحة سليمة.
آفاق المجتمع المغربي الثقافية
مر على المغرب زمن غير يسير وهو ينتقد نظامه التربوي وسياسته التعليمية التي لم تستطع أن تخلصه من الترتيب الدوني على المستوى العالمي في إنتاج القدرات والمؤهلات التي يحتاجها عالم اليوم، ولم تترك هذه الانتقادات جانبا دون أن تتوجه إليه. غير أن غياب الموضوعية واعتماد المنهج العلمي الصارم الذي لا يجد حرجا في وضع الأصبع على كل نقط الضعف جعلت النقد دائما غير مفض للكشف عن الحقيقة. ولأن التعليم يظل البوابة التي لا بد من ولوجها لدخول رحاب الثقافة، فإن مجالات أو بوابات أخرى تتقاسم معه تأهيل العنصر البشري سلبا أو إيجابا ونقصد بها مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية التي يكتسب من خلالها الفرد عادات وسلوكات يتحدد من خلالها مساره في الحياة. لكل ذلك نعتقد أن ما سبقت الإشارة إليه من غياب لأدوار يفترض أن يقوم بها المثقف في الحياة، ومن شروط يراد منها استصغار الفعل الثقافي والفاعلين فيه ،يؤشر على مستقبل أكثر قتامة إذا لم تصبح الثقافة الأداة المحورية في نهضة المجتمع.
إن الثقافة باعتبارها محددا لمستوى تقدم المجتمع ومبرزا لهويته ، تستوجب في الظرف الراهن المتسم بتعدد الأزمات وقوة الصراعات ،أن تعطى لها الأولوية في مختلف البرامج التنموية التي تستهدف الإنسان، في إطار استراتيجي وليس من خلال إجراءات معزولة. ولن يتم هذا إلا من خلال سياسة ثقافية واضحة تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
-         تجنب الثقافة التي لا يكون محورها الفرد ككائن اجتماعي وكرقم مهم في معادلة المحافظة والتوازن الاجتماعيين ، ولكن كإنسان له حاجات متنوعة لا بد من تلبيتها ليعيش حياة سليمة ينعم فيها بالوجود ويدرك معناه؛
-         رد الاعتبار للثقافة في الحياة التعليمية من خلال إكساب المتعلم المعارف الضرورية وآليات الاكتساب ،وسبله وإمداده بأدوات الفهم والتحليل والنقد بما هي قدرات تنمي شخصيته وتحدد توجهه في الحياة؛
-         منح الثقافة المكانة اللائقة بها وإعطاء المثقف الوضع الاعتباري المناسب لمحو الصورة السلبية التي أحاطت بهما في التصور العام والشعبي أساسا ، ولن يكون هذا إلا بحفز مختلف مؤسسات الدولة والجماعات المحلية على جعل الثقافة من أولى الأولويات في مختلف برامجها ومشاريعها ، بعيدا عن النظرة الاحترازية التي تتوجس خيفة مما هو ثقافي؛
-         النظر للثقافة كأداة لبناء المستقبل الإنساني عبر تسخير الدولة مختلف الآليات والأنشطة لهذه الغاية، وجعل المجتمع كله معنيا بها من خلال التفكير في الإنتاج والممارسة.
-         خلق مجلس أعلى للثقافة يحتضن المثقفين ويرسم مسار الثقافة بعيدا عن الهيمنة الساسية أو الدينية  للدولة وأجهزتها؛
-         إبعاد الثقافة عن الحس البراجماتي الذي يجعلها ممارسة موجهة وتحت الطلب ، إذ الثقافة ينبغي أن تنتعش في مناخ الحرية ليكون  المثقف قادرا على الإبداع؛
-         تنمية وإنعاش القراءة  عبر استراتيجية عامة تشكل المدرسة قاطرتها، حين توظف الآليات البيداغوجية القمينة بتجنيب القارئ سلبيات ما تقدمه تكنولوجيا المعلومات من منشورات للقراءة تقتضي الوعي النقدي الضروري لتجنب الاستيلاب لها، مع دفع كل مؤسسات المجتمع للانخراط الإيجابي فيها وحث الخطى لتوفير شروط النهوض بها. فالقراءة هي المدخل الضروري للثقافة؛
-         الاهتمام بالبنيات التحتية الأساسية للثقافة ممثلة في المعاهد والمراكز والمؤسسات التي تحتضن كل فعل ثقافي؛
-         الابتعاد عن ثقافة الاستهلاك التي لا امتداد ولا عمق لها، وتوفير هامش الاستقلال عما هو سياسي .فمن شأن ذلك أن ينمي الجانب الإبداعي غير الظرفي والمؤسس على أسس صلبة لا تحكمها الحاجات المباشرة؛
-         النظر إلى الثقافة كأساس لتنمية المجتمع وتقدمه، وبدونها لن نبني إنسان المستقبل.
هذه بعض من الشروط التي لا يمكن أن تقوم للثقافة في بلادنا قائمة بدونها، وإن غيابها أو تجاهلها سيضاعف أزمة المجتمع . لكنها شروط لا تقف حاجزا أمام الفعل النبيل الذي ما فتئ الفعل الثقافي يقوم به في كل الأزمان. لذلك فمهمة المثقفين اليوم تزداد إلحاحا وتتضاعف معها المسئولية حتى لا نجعل غياب الفعل الثقافي مرتعا لذوي النيات السيئة من السياسيين والجهلة الذين كلما خلا لهم المجال كلما ازدادوا فسادا وتدميرا للمجتمع. ومع سيادتهم لن يستطيع المجتمع تشييد نهضته وضمان قوته وتماسكه.
ونخلص في نهاية هذه المقالة إلى القول بأن أفق الثقافة في المغرب مثلها مثل باقي القطاعات ، بعد الوباء الذي ألم بالعالم أجمع(وباء كوفيد 19) وبعثر أوراق  كل الحسابات السياسية والاقتصادية ، خاصة بالنسبة للدول العظمى، سيتأثر حتما ، إذ بدا جليا أن الاستخفاف الشعبي والرسمي ببعض المهن واستصغار ما لعبته وتلعبه من أدوار في حياتنا، كان يضمر جهلا بأهميتها ومحوريتها في توازن البشر وصلابة الاقتصاد. لقد انقلبت كثير من المفاهيم والتصورات، وبرز العلم والمعرفة كمجالين للمراهنة على الخروج من الأزمة، حيث الجميع أصبح رهينة الإعلام بما يقدمه من مواد متعددة المشارب والاهتمامات ، مثلما أصبح الجميع في حاجة ماسة إلى من ينوره ويخفف عنه ثقل الخوف من نتائج الوباء ، سواء بالإرشاد أو التوجيه أو الوعي من جهة أو بالطمأنة وتهديئ المشاعر والأحاسيس من جهة أخرى . وتلك مهمة لا يقوى عليها سوى العلماء الذين يملكون حصافة في الرأي، كل في دائرة اختصاصه أو المثقفون بما يملكونه من رصيد رمزي يجعلهم يدركون الأمور بعمق قبل غيرهم.
ولأن دجل كثير من أدعياء المعرفة الدينية ومشجعي سلطتها على كل شيء اختفوا مرحليا بعد عجزهم عن تفسير ما وقع، وبعد فقدان الكثير منهم ملكة اليقين التي طالما ادعوها، فقد حان الوقت لستعيد المثقفون أدوارهم وليلجوا مجال المعرفة الدينية أيضا لرفع الشوائب عنها وفسح المجال للعقل لتحقيق الوعي السليم المؤكد لاستحالة العبادة الصحيحة بغير العلم. ذلك هو الأفق الذي سيسير نحوه المغرب ثقافيا، فهل المثقفون مستعدون لذلك؟
*أستاذ باحث



[‌أ]   حافظ الجمالي المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع المجلس القومي للثقافة العربية سلسلة الندوات والمؤتمرات وقائع حلقة الرباط الدراسية مايو1985  ص41
 هانز جورج جادامير الحقيقة والمنهج الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح دار أويا للطباعة والنشر2007[‌ب]
[‌ج]  الحقيقة والمنهج صص60 إلى 63 مرجع سابق.
[‌د]  الحقيقة والمنهج ص65 مرجع سابق
[‌ه]  محمود أمين العالم الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر منتدى مكتبة الأسكندرية طبعة رقمية ص311 شملت علاوة على الطبعة الورقية الأولى من الكتاب مقالات أخرى
[‌و]  Petit Larousse. Dictionnaire encyclopédique
[‌ز]  محمد أحمد خلف الله المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع ص40 مرجع سابق
[‌ح]  محمد جسوس المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع صص56-57 مرجع سابق
[‌ط]  محمد جسوس المرجع والصفحة نفساهما
[‌ي] ناجي علوس المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع ص160 مرجع سابق
 أنطونيو غرامشي كراسات السجن  ترجمة عادل غنيم صص24-25 دار المستقبل 1994  [‌ك]
[‌ل] المثقف العربي دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع ص8 مرجع سابق

أحدث أقدم