مركز الصدى للدراسات والإعلام: عبد اللطيف بطاح*
نروم الوقوف في هذا المقال على مختلف
إشكالات العلم الحديث وصلته بالفكر الفلسفي، مؤمنين أن الأول بدأ كاستطلاع فلسفي
مع نيوتن Newton بالخصوص، حيث إن التطورات العلمية تركت آثاراً إيجابية على
الفلسفة، ذلك أن العلم من وجهة نظر الإبيستمولوجي الأمريكي أليكس روزنبرج Alex Rosenberg، استند على البحث الفلسفي، كون الأخير أضحى أقوى مصدر منذ نجاحاته
الثورية في القرن السابع عشر، فهو المنتصر على حد تعبير جوزيف أكاسي Joseph Agassi، لأنه لا يحتاج إلى المروجين، وهو بهذا، يحيط بنا ويظهر في جميع مستويات
الحياة، إن أثر العلم في الحياة العلمية والسياسية والاجتماعية والجوانب الفنية
كبيرٌ جداً. هذا الأمر أدركه برتراند راسل Bertrand
Russell وألبيرت إنشتاين Albert Einstein. فالتكنولوجيا العلمية
اليوم بارزة جدا، وأي عداء للتكنولوجيا هو عداء للعلم والعقل أيضا[1].
نفس هذا الطرح دافع عنه روزنبرج، الذي يعرض داخل
كتابه "فلسفة العلم: مقدمة معاصرة philosophy
of science a contemporary introduction" نظريات علمية، كنظرية نيوتن وتصوره لحركة الكواكب واعتباره أن
حركاتها تحكمها أعداد محدودة من قوانين بسيطة يمكن التعبير عنها بشكل رياضي، قوانين
حتمية تربط كل مادة ببعضها البعض. وهو بتصوره هذا، آثار جدالات فلسفية تتعلق
بالإنسان ومسؤوليته وحريته وعلاقته بالدين، لكن ما علاقة التصور النيوتوني
بالفلسفة؟ بعبارة أدق، ما علاقة القوانين النيوتونية بموضوع مقالنا؟
الجواب على هذا السؤال، قاد أليكس
روزنبرج إلى التأكيد أن العلم الحديث مع نيوتن وآخرين بدأ كفلسفة، لدرجة أن حتميته
أضحت خياراً فلسفياً ودينياً، فمنذ أبعد العصور أنتج الفلاسفة علماً رفيعاً، مثلما
أنتجوا أشعاراً وحكماً، كما عرفوا العقائد والشرائع وكونوا لأنفسهم نظما اجتماعية
وأخلاقية، لذلك تزامنت البداية الفعلية للعلم مع الفلسفة الحديثة، حتى وإن كان
بزوغه قبل 2500 سنة مع الإغريق فإن التطور الذي شهده حالياً هو بفضل الحضارة
الغربية.
ساد اعتقاد قبل العصـر الحديث نُظر من خلاله
للنصوص المقدسة بوصفها مصدر العلميــــة والموضــوعية، بحيث ظلت إزاءه الأسطورة
تحتل المكان الذي يشغله العلم، كما كان الدين يقدم تفسيراً متكاملا للعالم. والتاريخ
الإنساني يحكي هذه الحقائق؛ فالأساطير القديمة والنصوص المقدسة تعبر عن نظرة
الشعوب للإشكالات العلمية، والدين خلال هذه الفترة كان يقوم بعدة وظائف، كان عليه تركها
للعلم للبحث فيها.
إن نظرة العلم ومطلب العَالِم مضاد لنظرة
الدين، فهذا الأخير، يفسر الحي عن طريق غير الحي، أي أنه يفسر الشاهد على الغائب،
أما العلم فهو يحاول أن يجد لظواهر الحياة تفسيراً من خلال عمليات فيزيائية
وكيميائية.
نسجل مع أندروديكس وايت Andrew Dickson White، أثناء تفصيله القول داخل كتابه: تاريخ النزاع بين العلم واللاهوت
History of the Conflict between Religion and Science، بخصوص علاقة العلم بالدين، أن الأخير كان من بين العوامل التي
أضرت بالعلم ووقفت دون الإسراع في تطوير مسيرته[2]، بحجة أن الفكر الديني حارب النظريات
العلمية، ورجال الدين احتقروا العلماء ولعنوا علمهم وأحطوا من شئنه، حيث إن نظرتهم
إلى الفلك كانت قدحية فهم يعتبرونه دراسة عقيمة لا يرجى منها أي نفع.
تغيرت مع نيوتن وداروين Darwin هذه النظرة للعلم والمعرفة ومصدرها، لذلك واجهوا اعتراضات من رجال
الدين، لأن نظرياتهم وتفسيراتهم الدينية بدأ يشك في مصداقيتها، فداروين كان له
دورا صاعقا حين قدم إنجازاً حطم به الأسس التي قامت عليها وجهت نظر الميتافيزيقا
إلى العالم، ففي كتابه أصل الأنواع L'Origine
des espèces ينتقدها
بقوله: "لقد ثبت الآن أصل الإنسان، وللميتافيزيقا الآن أن تزدهر. إن من يفهم
قردة البابون سيسدي للميتافيزيقا أكثر مما أسداه لوك"[3]، لأن المتحدثين في العلم وجب عليهم أن
يكونوا خبراء، على وجه الدقة، قصد الانخراط في مناقشة المسائل الميتافيزيقية لتبيين
تهافتها.
الملاحظ أن العلوم الطبيعية عرفت قمة
الازدهار منذ صدور كتاب داروين؛ فبمجرد قوله بالتطور الإنساني أصبحت الصيرورة جزءاً
من التطور الطبيعي، مثلما أضحت القوانين العلمية لا تتبع مناهج موضوعة سلفا بل
أصبحت تتطور والتطور الذي يشهده العلم.
تبعا لهذه التطورات، قام المذهب الطبيعي[4]* الذي قوض جانب كبير من الفلسفة التقليدية،
في مجالي الميتافيزيقا وفلسفة العقل، مهددا بذلك فلسفة الأخلاق، الشيء الذي أدى
إلى ظهور عدة تطورات في القرن العشرين داخل الفيزياء والرياضيات؛ تطورات ساهمت في
توطيد الثقة في المادية الفلسفية، لثقل في الحتمية الفيزيائية التي حلت محلها نظرية
الكـــــــــوانتم quantum
theory .
لعل في نظرية توماس كوهن Thomas Kuhn، إجابة عن هذه الاختلافات بين العلوم، وانتقاد بعضها البعض، كانتقاد
الفيزياء الكوانتية للفيزياء الحتمية...الخ. حيث إن تقدم العلوم حسب جل المؤرخين
تتحكم فيه مجموعة من العوامل، فالظروف والصعوبات التي أحاطت بنظرية نيوتن وأفكاره
العلمية تختلف عن نظيراتها، فالعلم كما أشار إلى ذلك كوهن ينتقل من مقدمات إلى
نتائج، وبمجرد أن تفقد الأخيرة مصداقيتها ننتقل من براديغم إلى أخر.
واجه العلم في الفترة الحديثة عدة صعوبات
تتمثل في تسرب الأخطاء والأوهام التي قد يكون سببها الفلسفة، أو الكنيسة، وهنا
يستحيل القول أن
له مسيرة تراكمية، وأنه حصيلة
إسهامات فردية، "فنظريات العلم بالأمس كانت نظريات علمية بحسب الزمان والمكان
والظروف التي أحاطت بتلك الأفكار، وعلى نحو النظريات التي ظهرت في عصرنا بموجب
ظروف خاصة يسرت ظهورها والأخذ بها"[5].
يدفع العلم حسب روزنبرج الفلسـفة إلـى طريق
واحد؛ طريق يؤدي إلى الفيزيقـــيـة والحتمية والإلحاد والعدمية، حتى وإن فرضت
الفلسفة الحديثة مع رونيه ديكارت René Descartes وجودها في الساحة الفكرية،
أثناء جعلها العقل مصدر العلمية والموضوعية، فقد همشت موضوعات من شئنها أن تؤدي
إلى تطورات علمية آنذاك؛ موضوعات تساءل المخ والذاكرة بطرق علمية مثلما عُرف مع العلوم
المعرفية Sciences cognitives في الآونة الأخيرة، أثناء تفصيلها القول في
التباين بين المخ والحاسوب؛ أي بين العقل البشري والعقل الاصطناعي؛ "ذلك أن
الفكر هو تحكماً في الرموز أما الحاسوب فهو نظامـــــاً صوريــــاً
معلوماتيــــــاً مــــؤولاً"[6]، ومادام العقل له القدرة على التمثل
والحساب مثل الحاسوب، فإن التمييز بينهما شبيه بالمقارنة بين شيئيين ينتميان إلى
جانبين مختلفين: واحد برمجي وآخر مادي.
جذير بالذكر، في ذات السياق، أن روزنبرج وهو
ينبهنا إلى ضعف العلوم الاجتماعية التي تستلهم مناهج العلوم الطبيعية، يؤكد أن
العقبة الوحيدة أمامها راجع للتعقد الحاصل في مكونات السلوك البشري، إضافة إلى حرصها
على فهم العقل كمنظومة فيزيقية تحاكي منظومة الحاسوب.
وفق هذا التصور، تغذو العلاقة بين الحواسيب
والحاسبة البشرية معقدة خصوصا وأن هناك اختلاف كبير بينهم، لدرجة أن أي نسق رياضي
يتسم بالقوة يعتمد على قواعد حسابية وأسس متينة، لا يمتلك قدرة البرهنة على
الحقائق التي يصل لها، وبالتالي لابد له من الاعتماد على نسق مختلف وأقــوى يحقق
ما لا يستطيع تحقيقه النسق الأضعــف، على خلاف الإنسان، ففي نظر روزنبرج يتميز على
الحاسوب غير المتوفر على ملكة العقل بقواعد تفكير ليست شبيهة بالبرامج المرنة، "فالذهن
البشري مندمج على شكل جهاز لمعالجة المعلومات، ويتميز بما يلي:
أولاً: أن الجهاز المعرفي لدى الإنسان أقصد
العقل يشتغل بالرموز، لأن التفكير عبارة عن معالجة المعلومات، ومعالجة المعلومات عبارة
عن حساب، أي اشتغال بالرموز؛
يبدو من خلال ما تقدم، أن الدِماغ البشري له
خصوصياته الخاصة المنعدمة في الآلات، فقد سمحت هذه المقاربة بإظهار ما يميز عقل
الإنسان الذي يشتغل فطرياً بدون أي برامج، على خلاف الحواسيب التي لا تستطيع أن
تشتغل وحدها، وبالرغم من برمجتها وتزويدها بمهارة الذكاء، فهي لا تستطيع الاشتغال
كالإنسان الذي يعمل بالجهد والعناء.
تبعا لهذا، يورد أليكس روزنبرج رأي بعض
الفيزيائيين الذين رفضوا دراسة العقل البشري بنفس الطرِيقة التي تدرس بها الأجسام
المادية، والتي توجد في الفيزياء، أو الكيمياء، أو البيولوجيا، بذريعة أن العلوم
الحديثة تسعى إلى تقليص الثقة في اتخاذ وجهة نظر العلم الخالص للعالم كفلسفة
لنا.
أخيراً، فالعلم ابتدأ كفرع من
الفلسفة منذ العصور القديمة، هذا الأمر أكد عليه العديد من الباحثين والمختصين في
هذا المجال؛ بذريعة أن الفلسفة لها علاقة وطيدة بالعلم، فمنذ القدم تناولت عدة
أسئلة لا يستطيع العلم الإجابة عنها، مجيبة بذلك عن سبب فشل العلم في الإجابة عنها.
إن العلم بدأ مع اليونان نظري، وتطور في
الحضارة الغربية خلال الآونة الأخيرة، لأن الأخير شهدت لحظة تطور حضاري في جميع
المجالات تقنية وتكنولوجية وعلمية. إن العلم هو المساهمة الوحيدة التي قدمها
الغرب، والمكانة التي وصلها هؤلاء أتت عن طريق جهود تتمثل في مواجهة التفسيرات غير
العلمية للعالم، والتوجه به للعالم والإنسان والظواهر الطبيعية والمادية وغيرها،
من ثمة أخدت باقي الحضارات من الغرب هذا العلم، ورغم المكانة التي وصل لها في
الحضارة الغربية واعتماده على تقنيات معاصرة، فقد ظل مدينا للفلسفة اليونانية التي
مهدت لظهوره، ولظهور جميع الدراسات المعرفية الأخرى.
*باحث من المغرب
[3]_ روزنبـج
"أليكس"، فلسفة العلم: مقدمة معاصرة، ترجمة وتقديم: أحمد عبد الله
السماحي وفتح الله الشيخ، مراجعة: نصار عبد الله المركز القومي للترجمة، القاهرة،
العدد: 1693، الطبعة الأولى، 2011، ص. 25.
[6]_ أنجل"
كريمير مارييت"، مدخل إلى العلوم المعرفية، ترجمة: بنعيسى زغبوش، مصطفى
بوعنانـي، عبد النــــبي سفير، مجلة فكر ونقد، العدد 72، أكتوبر 2005، ص. 116.
[7]_ ب.زغبوش؛ ع.سفير؛ م.بوعناني، العلوم
المعرفية وتكنولوجية المعرفة، مجلة نموذجات معرفية، العدد: 1، 1997، ص. 19.
Tags
مقالات